ذكرت في المقال السابق بنفس العنوان (يناير 2014) ما رايته من فوارق بين الحركة الإسلامية في تونس عنها في مصر, دون اغفال التباينات بين مكونات الحياة السياسية في البلدين,ووجود فوارق ثقافية ومجتمعية أيضا, مع اختلاف المعطيات الاقليمية والدولية, فنظرة الاقليم لمصر تختلف عن نظرته لتونس, ونظرة العالم لدولة مجاورة للكيان الصهيوني,وبها مجرى مائي عالمي وتعداد سكانها يزيد عن 90 مليون قطعا ستختلف عن نظرتهم لتونس. انتخابات اكتوبر 2014 أظهرت نتائج انتخابات برلمان تونس الأخيرة وكأننا أمام ديمقراطية مستقرة لا ناشئة, فالحزب الأول (النهضة) في الانتخابات السابقة (89 مقعدا بنسبة 41% من اجمالي المقاعد) حل ثانيا في الانتخابات الأخيرة,(69 مقعدا بنسبة قدرها 32% من اجمالي المقاعد) في تداول طبيعي قام به الشعب التونسي حين يقدم ويؤخر عبر صناديق الانتخابات باعتباره صاحب القرار الأول في البلاد..
حضور الشعب التونسي توقع بعض المتابعين للشأن التونسي عزوفا من الناخبين عن المشاركة في الاستحقاق الانتخابي, فأدهشهم الشعب التونسي بحضور يقدر بنحو 60% وهي نسبة كبيرة جدا حين نقارنها مع غيرها,وقد اعطت اغلبية معتبرة من الناخبين حركة نداء تونس(ائتلاف يضم عدة احزاب وحركات وقوى) 84 مقعدا متقدما عن النهضة بعدد 15 مقعد, بعد أن التقط الناخب اشارات حركة النهضة حينما قررت عدم التقدم بمرشح لرئاسة البلاد وحين تنازلت عن رئاسة الحكومة فأدرك الناخب أن النهضة ربما لا تريد صدارة المشهد السياسي . ضريبة الحكم , وحنكة الشيخ أتت حركة النهضة ثانيا لما ارسلته من إشارات لعدم رغبتهم صدارة المشهد بالإضافة لما دفعته من ثمن عن أخطاء نجمت عن تولي رئاسة حكومتين متتاليتين برئاسة الجبالي فالعريض اعقاب ثورة, فمن الطبيعي أنه بعد الثورات يقل الرضا ويكثر السخط بسبب ارتفاع حجم التوقعات, ولذلك لما اعتبره الناخب أن اداء الحكومة كان مخيبا لآماله فأحجم عن اعطائهم الصدارة ..وإذا انخفضت نسبة مقاعد النهضة بنسبة 7% فقد عاقب الناخب التونسي حزب الرئيس المنصف المرزوقي بدرجة أكبر حيث حصل على 4 مقاعد فقط بانخفاض قدره 11% بينما حل ثانيا في انتخابات المجلس التاسيسي الأول الذي حصل فيه على 29 مقعدا .. لكن من زاوية أخرى, فإن غير المؤمنين بالديمقراطية قد لا يرون في الحياة السياسية إلا لاعبا واحدا, ولم يدركوا بعد معنى تداول السلطة, فحركة النهضة حلت ثانيا ولازالت لاعبا اساسيا في المشهد, ومن ثم لا نجد مبررا لحالة الفرح عند خصوم الحركة في غير مكان, وكأن الشعب التونسي اطاح بالحركة خارج الملعب السياسي أصلا ! لقد استطاعت حركة النهضة بقيادة مفكر من طراز فريد "الشيخ راشد الغنوشي" أن تساهم في استمرار المسيرة,وتعاملت بمرونة هائلة لم تكن عند غيرهم حينما تعقدت بعض المسائل, تجلى ذلك عند صياغة الدستور وعند رئاسة الحكومة , لقد تقدمت الحركة لتولي المسئولية وتنازلت وفقا لما رأته من مصلحة , والسياسة عملية متغيرة مرنة لا حجرية صلبة, لقد أدركت النهضة أن مزاجا تونسيا, وقدرات ذاتية, ودوافع اقليمية وحالة دولية تقتضي الاحجام فأحجمت, ورأت أنها إن تأتي ثانيا أفضل من أن تغيب .. حرج كبير رأى الشعب التونسي والمتابع العربي والدولي أن تداولا للسلطة عبر صناديق الانتخاب يمكن أن يكون موجودا في ظل مشاركة الإسلاميين, وأنهم يمكن أن يكونوا في الصدارة أو في غيرها ويمكن للحالة الديمقراطية أن تنجح إذن, بل ويمكن ازاحتهم دون طريقة خشنة, ومن زاوية أخرى فإن صبر غير الإسلاميين على الإسلاميين وحياد المؤسسات حتي لا يتم التغيير إلا بالصندوق قد تحقق وهو أمر محمود مما أوقع مؤيدي الخيارات الخشنة في حرج .. كما احرجت نتائج انتخابات تونس ما يُسمى بالقوى المدنية عندنا, حين عجزت عن مواجهة الإسلاميين عبر صناديق الانتخابات, بينما استطاعت نفس القوى في بلد مجاور يتشابه كثيرا مع حالتنا مواجتههم بل والفوز عليهم وازاحتهم من صدارة المشهد السياسي .. فكما تدنت شعبية الإخوان في مصر بعد اقل عام من توليهم السلطة انخفضت ايضا شعبية حركة النهضة في تونس بعد توليهم السلطة مما اضطرهم للتنازل عن رئاسة الحكومة مرتين متتاليتين مما أدى الى تراجع تأييد الناخب التونسي لهم . الفلول والمصالحة اطلقت القوى السياسية بعد رحيل مبارك عن الحكم في فبراير 2011 تعبير الفلول على رجال الحزب الوطني السابق, وقدم ليبراليا مرموقا هو د.عمرو حمزاوي إبان عضويته بمجلس الشعب مشروع قانون للعزل السياسي لرموز نظام مبارك , وكأننا يجب علينا كتابة شهادة وفاة سياسية لهم , ولم يكن هذا الإجراء من الليبرالي المرموق ديمقراطيا, وهو ما جعله يعترف بعد ذلك بأنه أخطأ حين قدم هذا المشروع .. وبعد 3/7/2013 اصبحنا أمام مصطلح فلول الإخوان, وتوالت القرارات ايضا لإخراجهم من الحياة السياسية, دون النظر الى أن تعهدات خارطة الطريق في 3/7/2013 تضمنت المصالحة المجتمعية,وهو ما لم يتحقق, أما الشعب التونسي فقد حقق المصالحة بإرادته دون حاجة الى قرارات أو قوانين حين تنوعت خياراته بين رموز النظام السابق وبين المعارضين له ,وهذا يعني أن الشعب لم يقبل بفكرة الاقصاء (للقديم أو الجديد) , ربما لأنه اعتبرها فكرة مخيفة تطرح سؤالا هاما: ( أين يذهبون, وماذا يفعلون ؟ داخل السياسة والعمل العام أم خارجهما) .. وتصبح الأزمة كل الأزمة حين يغيب عن ادراك رموز الأنظمة السابقة أن الزمن تغير وأن العجلة لا تعود للوراء, فإن لم يغب ذلك عنهم ولا عن مشروعاتهم وقبلوا المشاركة على القواعد الجديدة فليس ثمة حرج في ذلك, لأنهم في الغالب لم يفقدوا مصادر قوتهم , فيظل عملهم على أعين الناس وكجزء من المشهد العام أفضل كثيرا من وجودهم خارج المشهد العام, وفي النهاية فإن الناخب هو من يأتي بهم , وهو ما يجب احترامه إن قبلنا بقواعد العملية الديمقراطية . خطورة الاقصاء ولعله حري بنا أن نفعل ذلك, ونتجنب فكرة الاقصاء بالقرارات أوالقوانين أو القوة, لأن أغلب تجارب التاريخ وصراعاته لا تُحل بطريقة الاقصاء, ولعلنا نضرب مثالا واحدا, وهو القضية الفلسطينية, سنجد أن الشعب الفلسطيني يعيش تحت الحصار والاحتلال, ويواجه آلة عسكرية رهيبة تتضمن رؤوسا نووية , مع قدرات اقتصادية هائلة, ودعم عالمي غير محدود, واقليم مسالم (إن صح التعبير), ومع ذلك لم يستطع الصهاينة القضاء على إرادة الفلسطيني في الحياة والوجود ..
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.