في عام 1994 فاز أردوغان - المرشح علي قوائم حزب الرفاة الإسلامي - بمنصب رئيس مدينة اسطانبول و هو لم يتعد بعد سن الواحد و الثلاثون من عمره،و قد صار له يد عظيمة علي تلك المدينة التي تسلمها و هي تغرق في ديون بلغت الملياري دولار ليحيل ذلك كله الي نمو بلغ 7%. في عام 1998 تم اتهامه بالحض علي الكراهية و تأجيج الفرقة الدينية، وكان من أدلة ذلك الاتهام إلقاؤه خطبة تضمنت أبياتاً من الشعر التركي تقول "مساجدنا ثكناتنا،قبابنا خوذاتنا،مآذننا حرابنا،و المصلون جنودنا، و هذا الجيش المقدس يحرس ديننا " ليُحكم عليه علي إثر ذلك بالسجن لعشرة أشهر ليطلق سراحه بعد أربعة أشهر فقط لحسن السلوك.في تلك الأثناء كان حزب الفضيلة قد بدأ في الظهور علي الساحة السياسية خلفاً لحزب الرفاة المنحل -بمباركة أربكان الذي كان ممنوعاً من مزاولة النشاط السياسي لخمس سنوات- و مقتفياً أثره علي سبيل الأحزاب ذات التوجه الإسلامي.كان حزب الفضيلة بمثابة المحطة الأولي لانطلاق تيار الشباب الذين تربوا في كنف الحركة الاسلامية منذ نشأتها فبدأ نجمهم في البزوغ،و كان عدم اتساقهم التام مع أسلوب إدارة الحزب سبباً في تشكيلهم لما يشبه التيار الاصلاحي داخل أروقة الحزب لمحاولة الحول دون أن يلقى الحزب ذات المصير الذي لقيٌه أسلافه من أحزاب الحركة الإسلامية. إنطلاقاً من هذا الهدف،ترشح عبد الله جول رئيساً للحزب أمام رجائي طوقان المدعوم من أربكان ليفوز الأخير بفارق ضئيل يعكس قدرات ذلك التيار الجديد.سلك الحزب مسلك حزب الرفاة في الجهر بأفكاره و توجهاته الاسلامية دون مواربة مما جعل صدامه مع القوة العلمانية المدعومة من العسكر حتمياً لامناص منه،فمثلاً قام بسابقة تعد الأخطر في تاريخ تركيا العلماني بأن قام بالدفع بنائبة محجبة (مروة قاوقجي)عن الحزب في البرلمان فاعتبرت القوي العلمانية(التي فوجئت بامرأة و قد ازدان رأسها بالحجاب لأول مرة داخل أروقة البرلمان) ذلك حرباً صريحةً علي المباديء الكمالية للجمهورية من قبل الحزب الوليد فظلوا في أعقاب تلك السيدة حتي تم سحب الجنسية التركية منها بدعوي حملها لجنسيتين (التركية و الأمريكية) دون إبلاغ السلطات و من ثم طردها من البرلمان.كان هذا نموذجاً علي نهج حزب الفضيلة و صراعه مع القوي السياسية في تركيا فكان و لابد أن يُفضي هذا الصراع الي النتيجة الحتمية التي سبقه اليها الكثير من الأحزاب وهي الحل بقرار من المحكمة الدستورية-أحد حصون العلمانية-(بعد مداولات استمرت لأسبوعين لمحاولة تفادي حدوث أزمة سياسية لأن الحزب كان له أكثر من مائة عضو بالبرلمان)،و كدأب المحكمة نصت في حكمها علي أن الحزب يهدد المبادئ العلمانية للدولة و يسعي لتقويضها. و كما كانت نشأة حزب الفضيلة إيذاناً ببزوغ نجم التيار السياسي لشباب الحركة الاسلامية ، كان حل الحزب أيضاً إيذاناً بلمعان نجمهم، فوجدوا الفرصة قد سنحت لهم لجعل أفكارهم حقيقة علي أرض الواقع،فلم ينضموا لحزب السعادة الذي شكلته القوي التقليدية للتيار الاسلامي بل أنشأوا حزبهم الجديد "العدالة و التنمية" ليظهر علي الساحة السياسية في عام2001 برئاسة أردوغان.ضم ذلك الحزب إلي جانب شباب التيار الاسلامي بعض الأعضاء من أحزاب محافظة أخري كحزب "الوطن الأم "الذي أسسه رئيس تركيا الأسبق "تورجوت أوزال"(كان إبان رئاسته لتركيا يصلي خفية في القصر الرئاسي خشية أن يراه العسكر) و كذلك بعض المنتمين للتيار القومي التركي و هو ما جعل الحزب متنوع فكرياً الي حد كبير عن أسلافه من الأحزاب ذات التوجه الإسلامي،و من ثم نرى الحزب يعرف نفسه علي أنه حزب محافظ يحترم العادات و التقاليد التركية و كذلك المبادئ العلمانية و لكنه يفسر العلمانية بأنها تتمثل في حياد الدولة تجاه المعتقدات و هي بذلك -في نظره-ضامنة للديمقراطية و هي رؤية تضاد إلى حد كبير رؤية التيار العلماني الذي دأب علي طمس أي معالم أو مظاهر دينية تطرأ علي الحياة السياسية - خاصة- في تركيا بدعوى مخالفتها لمبادئ الجمهورية.كان أسلوب الحزب جديداً علي الساحة السياسية في تركيا ،تلك التي اعتادت على وجود معسكرين غاية في التباين يتنازعان المشهد .من ثم كان عليه أن يواجه الاستنكار من الطرفين في آن واحد،فبينما رأي فيه التيار الاسلامي ارتداداً عن مبادئ الحركة الإسلامية و مناصرةًً للتغريب و ربما في بعض الأوقات للصهيونية (علي الرغم من ترعرع جُل أعضاء الحزب في ربوع الحركة الإسلامية) رأي العلمانيون فيه محاولة سرية لأسلمة المجتمع التركي وإن أظهر غير ذلك وتستر برداء الحرية و الديمقراطية، و الحزب بين هذا و ذاك يشمٌر و يحاذر. كان الحزب قد عمل علي إعداد مجموعة من المشروعات الإصلاحية إبان فترة تشكيله لتكون قيد التنفيذ في حالة وصوله للسلطة ( بما يعني أن الحزب لم يكتف بالتنظير فقط) و بينما كانت تركيا تمر -في عام 2001 - بأزمة اقتصادية أفقدت الشعب هناك ثقته بالنظام السياسي و الأحزاب القائمة آنذاك،ظهر حزب العدالة و التنمية بأطروحاته و خططه الاقتصادية التي حازت تأييد الشعب ،ليحصد الحزب علي إثر ذلك 34% من الأصوات في أول انتخابات برلمانية يخوضها و يشكٌل عبد الله جول الحكومة في ذلك الوقت.تلفٌت العلمانيون حولهم بحثاً عن الجيش ليضع حداً لذلك الأمر كما جرت العادة و لكن ثمة أمر مختلف هذه المرة،فالحزب هذه المرة قد وصل بدعم شعبي هائل لا يمكن تجاوزه و لا الاصطدام به.كذلك ورد في دراسة أعدها مقربون من الجيش التركي أنه قد تم الاتفاق (في عام 1999 ) بين أطراف عدة من ضمنهم الجيش و الرئاسة و الحكومة علي دفع تركيا للانضمام إلي الاتحاد الأوربي مما يعده البعض فرصة استغلها حزب العدالة و التنمية للوصول للسلطة دون تدخل الجيش مقابل تعهده بالحفاظ علي السعي نحو تنفيذ هذا الاتفاق.لم ينهج الحزب نهج أسلافه ممن خرجوا من رحم الحركة الإسلامية في التعامل مع القضايا الداخلية و الخارجية،فعلى صعيد الداخل لم يتطرق كثيراً للقضايا التي قد تثير القوي الأخري عليه -و من بينها الجيش- كقضية منع الحجاب في الدوائر الرسمية ( بل إن أردوغان نفسه اكتفى بإرسال ابنتيه ليستكملا تعليمهما بالولايات المتحدة)، و كذلك لم يسع الحزب في أي من الدورات الانتخابية لترشيح محجبات علي قوائمه. أما علي الصعيد الخارجي فقد كان دائماً حريصاً علي ألا يولي وجهه شطر المشرق أو المغرب بالكلية، فبينما كان حريصاً علي إقامة علاقة طيبة و خاصة بأمريكا بدعوي أنها المتفردة بزعامة العالم و قوة لا يمكن غض الطرف عنها ، توجه نحو الدول العربية و الإسلامية داعياً إياهم لعمل الإصلاحات اللازمة و التوسع في الحريات و جعل الديمقراطية سلاحاً يستطيعون به مواجهة مشاكلهم بأنفسهم دون أية تدخلات خارجية.لكن و نظراً لانقسام الدول العربية في رأيهم تجاه الحزب ،فقد آثروا أن يمنحوه فرصة لتفريغ الشحنة الإصلاحية و لكن بحذر ،فتم انتخاب مرشح حزب العدالة و التنمية (أكمل الدين إحسان أوغلو) أميناً عاماً لمنظمة المؤتمر الاسلامي للمرة الأولى في تاريخ تركيا (ثاني أكبر المنظمات الدولية بعد الأممالمتحدة). سرعان ما وُضع الحزب في أول اختبار سياسي له و ذلك بعد أن تقدمت إدراة بوش بطلب للحكومة التركية بفتح أراضيها و سمائها للقوات الأمريكية لضرب العراق إبان الغزو الأمريكي للعراق في مطلع 2003 لتجد الحكومة نفسها في وضع بالغ الحرج بين الاستجابة لمطلب تراه منافياً بالكلية لما نشأت و ترعرعت عليه من مباديء و بين رفض مطلب كهذا ربما يؤدي لتردي في العلاقات بين البلدين لا تُحمد عواقبه. بات أمام الحكومة حل وحيد لهذا المأزق و هو أن تلجأ لذات السلاح الذي طالما أوصت به أقرانها من العرب ،سلاح الديمقراطية، فقررت أن تحيل الأمر برمته الي البرلمان للتصويت ليسفر ذلك عن رفض السماح لتلك القوات باستخدام أراضي تركيا و مجالها الجوي لتسوء العلاقات بين البلدين (في الوقت الذي سمحت لهم حكومات عربية شقيقه للعراق باستخدام كل إمكانياتهم بل حتي المال أمدوهم به).تعامل الحزب مع إسرائيل بمنطق الندية و ليس الإذعان و الرضوخ فأعلن أن تطوير العلاقات الديبلوماسية مرهون بمدى التزام إسرائيل بعملية السلام مما حدا بتركيا أن تكون أحد اللاعبين الرئيسيين في منطقة الشرق الأوسط ،و لا يزال موقف أردوغان من الحرب الإسرائيلية علي غزة حاضراً في الأذهان و كلمته القوية التي ألقاها في مؤتمر دافوس لينصرف علي إثرها مغاضباً (و يخلف وراءه أمين الجامعة العربية في حيرة من أمره و هو المعنيٌ أكثر منه بالأمر)،الأمر الذي حدا بالبعض أن يلقبوا ذلك الجيل بأحفاد العثمانيين و ربما رأوا هم أنفسهم كذلك حيث قال أردوغان في خطابه أمام الهيئة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية متحدثا عن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، إن على إسرائيل أن تعلم أنه "ليس زعيم دولة عادية، بل زعيم أحفاد العثمانيين."الأمر الذي أظهر قدر الذكاء السياسي الذي يتمتع به أردوغان و حزبه و الذي استطاع معه أن يخاطب العلمانيين و القوميين و الإسلاميين بذات الكلمات.يجدر بنا هنا الإشارة إلي أمرين لندرك حجم الصراع و الجهد الذي يبذله ذلك الحزب في دولة مثل تركيا للحفاظ علي التوازن الداخلي رغم أنه منتخب بأغلبية مريحة. الأمر الأول هو شبكة "أرجنكون" التي سعت إلي قلب نظام الحكم و قد ضمت بين أعضائها أسماءً لامعة من قادة سابقين بالجيش ليتم تقديمهم للمحاكمة لأول مرة في تاريخ تركيا نري فيها عسكريين يقدمون للقضاء،أما الأمر الثاني فهو الدعوى التي تقدم بها المدعي العام بتركيا للمحكمةالدستورية لحل حزب العدالة و التنمية تلك الدعوى التي تم رفضها و إن انتهت بمنع الحزب من نصف أموال الدعم الحكومي. لا يزال المشهد التركي مثيراً و التجربة حاضرة تتبلور معه كلما مر الوقت،و لكن يبقيى السؤال: إلى أي مدى تصلح هذه التجربة أن تُستنسخ في مجتمعات و بيئات سياسية أخرى؟!! و ما هي الاسباب وراء ذلك النجاح المبهر و المتكرر لأردوغان و حزبه؟! و إن سلمنا بإمكانية استنساخ تلك التجربة، فبأي قدر يكون ذلك الاستنساخ ؟؟! أم أن التجربة تستحق الدراسة و التأمل علي أن يأخذ -من يريد تطبيقها-في اعتباره اختلاف المؤثرات و الظروف من حوله؟!! لذلك حديث آخر نخلص فيه –إن شاء الله- بنتائج أو لنقل رؤي من هذه التجربة الثرية. محمد صدقي