أسبوع بعد أسبوع، يستخرج الشعب السوري من خزانته العديد من أسرار شخصيته الحضاريَّة، هذه الشخصية التي أثبتتْ أنها تخوض ثورة من أصعب الثورات في العالم العربي؛ لأنها تُنازِل طاغية من طرازٍ خاص ونظام سياسي باطش وهمجي لا يقيم وزنًا لحرمة الدم الإنساني. أذهل السوريون العالم في صبرهم وطول نفسهم وفي إصرارهم على سلميَّة ثورتهم، رغم ما تلاقيه من مؤامراتٍ وبطش لا يكاد يصدقهما إنسان، فقد تصور نظامهم السياسي البعثي المجرم أن أساليب الترويع والتنكيل التي يواجه بها الثورة السلميَّة ستدفع الناس إلى الخوف وإلى العودة إلى بيوتهم طلبًا للسلامة، لكن ما لم يحسبْ هذا النظام المجرم حسابه هو أنه كلما أوغل في قتل الشعب السوري الأعزل المسالم، كلما اكتشف أنه لا يقتل إلا الخوف الذي كان قد سيطر على السوريين فمنعهم من إظهار شخصيتهم المتميزة. لقد كان الدرس الأول الذي استوعَبَه الشعب السوري من خلال ثورته هو أنه استطاع أن يسقط الخوف تحت أقدام المظاهرات المستمرَّة في كل مكان من الوطن السوري ولا تكاد تتوقف ليلًا أو نهارًا، أسقطت الثورة السوريَّة أكثر من أربعة عقود من صناعة وتصنيع الخوف ودسّ الرعب في نفوس وعقول وأرواح الناس، ويومًا بعد يوم يتأكَّد السوريون أنهم انتصروا على الحواجز الرهيبة للتخويف والتجسس التي أراد بها نظام البعث المجرم ترويضهم وقمع إرادتهم وروحهم، والدليل على ذلك أن نظام البعث يواجه المظاهرات السلميَّة بآلة المواجهة العسكريَّة التي تقتل الآلاف وتصيب عشرات الآلاف وتعتقل أضعافهم وتهجّر الملايين وتشردهم، لكن هذه المواجهات لم تستطعْ أن توقف المظاهرات لأن السوريين ذاقوا الحرية وأسقطوا الخوف وعرفوا مستقبلهم. النظام البعثي المجرم، بهذه المجازر التي يواجه بها الثورة السلميَّة، يثبت أنه يعيش خارج التاريخ، فتاريخ ثورات الشعوب يؤكِّد أنه كلما استنفر النظام وسائله التقليديَّة في القمع، زادت روح الشعب في تحدِّيه ومواجهته، والدماء التي تسيل الآن هي وقود الثورة السوريَّة التي ستمكِّنها من الاستمرار حتى تحقق أهدافها، خاصة وأن هذه الدماء الطاهرة غزيرة بكثرة الشهداء وتنوعِهم، بكثرة الأطفال والنساء الذين سقطوا بنيران هذا النظام الهمجي. ولا يدرك نظام البعث أن دوافع السوريين لاقتلاع الخوف الذي أُريدَ استزراعه في قلوبهم، لحصار أماني الناس وتطلُّعاتهم والتجسس على حركاتهم، وأفكارهم، وعلاقاتهم، وكل شيء فيهم حتى أحلامهم، وأن رغبة السوريين في استعادة الثقة لمجتمعهم الذي اخترقته أجهزة الأمن، فلم يعد أحد يأمن حتى لشقيقه، هذه الدوافع العظيمة أكبر بكثير من دوافع نظام سياسي قمعي وهمجي يرتكب كل الجرائم من أجل المحافظة على استمراره وبقاء أركانه وزبانيته على كراسي السلطة لأطول فترة ممكنة. ولأن نظام البعث من أعتى وأشرس الأنظمة العربيَّة، فقد كان إبداع السوريين في مقاومته خلال ثورتهم إبداعًا متفردًا، ورغم أن نظام بشار قد أبعد كل وجود إعلامي أجنبي من داخل سوريا خوفًا من أن تنفضحَ جرائمه، إلا أن السوريين بإمكاناتهم البسيطة استطاعوا توثيق جرائم بشار، ونقلوها كما نقلوا المظاهرات في كل مدينة وقرية إلى العالم، ورأى الناس في كل أنحاء العالم كل ما يجري في سوريا. هنا لم يجد النظام البعثي الهمجي سوى استهداف مستخدمي الهواتف المحمولة الذين يرصدون الأحداث في بلدهم عبر كاميرات هواتفهم، في محاولة لمنع انتشار الصور ومقاطع الفيديو حول عمليات القتل التي ينفِّذها الجيش بحق المدنيين، والتي أصبحت تملأ موقع "اليوتيوب" وغيره من المواقع، فالمحتجون الذين يسجلون الأحداث الدامية في بلادهم باستخدام هواتفهم المحمولة صاروا مستهدفين بشكلٍ متعمَّد من قبل قوات الأمن السوريَّة التي تحاول وقف تدفق الصور السلبيَّة التي تنقلها وسائل الإعلام العالميَّة، والتي تصلها من المواطنين السوريين، حيث يأمرهم الأمن السوري بالامتناع عن تصوير أي أحداث تقع في مناطقهم. لقد أصبحت الحرب الإلكترونيَّة التي تخوضها الثورة السورية ضد جبروت نظام بشار وكذبه، لا تقلّ ضراوة عن نظيرتها الدائرة على أرض الشام، فإذا كان نظام بشار يستخدم الشبيحة لبثّ الرعب والخوف في نفوس السوريين، فإنه يستخدم نفس الأسلوب على مواقع التواصل الاجتماعي لتقطيع أوصال النشطاء والمعارضين وسرقة حساباتهم الشخصية ومنعهم من التواصل مع متابعيهم. وقد استطاع نظام بشار القمعي تجنيد جيش من مستخدمي الإنترنت يزيدون عن عشرين ألفًا من أجل إفساد وتعطيل حسابات المناهضين للنظام على الإنترنت، تحت مسمى "الجيش السوري الإلكتروني" وقد نجح في اختراق بعض صفحات رموز المعارضة السوريَّة، وكتابة عبارات تأييد لبشار وعصابته وحزبه. ومن إبداعات الثورة السوريَّة في مواجهة بطش وقمع وإجرام نظام البعث الدموي، ذلك التخطيط غير المسبوق في العالم بخروج المظاهرات ليلًا، وهو ما يجعل من الصعوبة بمكان على قوات الأمن التعاطي معها من حيث اعتقال المتظاهرين أو إطلاق النار عليهم بسهولة، وهذا الإبداع يُظهر قدرةً فائقة لدى المتظاهرين على مواصلة الاحتجاجات وعلى الحركة ورد الفعل، بل وعلى المبادأة. وإذا كانت المظاهرات السوريَّة قد بدأت في أيام الجمعة فقط، فإن هذا الأمر بدأ يتغيَّر الآن وأصبحت الثورة لديها الإبداع في تغيير تكتيكاتها حتى تتمكَّن من الاستمرار، وأصبحت المظاهرات الليليَّة تستقطب الناس، لا سيما وقد عادوا من أعمالهم ومدارسهم، حيث من السهولة الهرب ليلًا من أمام قوات الأمن والاختباء في البيوت والحوانيت وتفادي سقوط قتلى وجرحى على نطاق واسع. ومع تطوُّر واستمرار الثورة، أصبح المحتجون الآن لديهم القدرة على تصوير المظاهرات بكاميرات رقميَّة، وبجودة عالية أفضل من جودة كاميرات الهواتف الجوالة بكثير، كما يقوم المتظاهرون بخديعة رجال الأمن باللباس المدني من خلال الظهور بمظهر أنهم من قوات الأمن. وإذا كان الجيش السوري يحتل المدن لإشاعة الخوف في قلوب الناس وللقبض على المتظاهرين وارتكاب المجازر الجماعيَّة، فإن هذا السلوك لم يعد يخيف السوريين كما كان يخيفهم من قبل، وحينما توجَّهَت الدبابات في اتجاه مدينة "حماة" بعد أن تمكَّنت هذه المدينة من تنظيم مظاهرات نصف مليونيَّة، أثبت أهالي "حماة" أنهم رغم المجزرة التي ارتكبها حافظ الأسد بحقهم عام 1982م حينما تظاهروا ضده، فقتل منهم ما بين 15 إلى 30 ألفًا، وشرّد أضعافهم، رغم ذلك فإنهم استطاعوا أن يسقطوا حاجز الخوف في قلوبهم واستطاعوا أن ينظِّموا مظاهرات غير مسبوقة وتصل لنصف مليون متظاهر. يومًا بعد يوم تزداد المظاهرات في سوريا ويتسارع زخمها وتصل إلى مناطق لم تكن تشارك في المظاهرات، ورغم العنف المبالَغ فيه لمواجهتها إلا أن النتيجة هي الاستمرار والتواصل وزيادة أعداد المتظاهرين، وهو ما يعني أن الثورة السوريَّة لن تتوقفَ حتى تحقق أهدافها، وأن الشعب السوري عرف طريق الخلاص ولن يتراجع عنه. ومما يعطي المبرِّر لاستمرار المظاهرات أن كل مظاهر الدعوة للحوار التي يطرحها نظام بشار، خالية من المعطيات العمليَّة كي تبرهن على نيَّة هذا النظام في الإصلاح، فمن يريد الحوار يجب أن يمنح الثقة للآخر ويثبت مصداقيَّة نواياه، وهو ما لم يفعله النظام السوري الذي لم يطلقْ سراح المعتقلين رغم صدور عفوين بحقهم، وما زال كثير من النشطاء في السجون، وعمليات القتل والقنص واغتصاب النساء وقتل الأطفال مستمرَّة، وهو ما يدلُّ على أن النظام لا يريد التغيير والإصلاح وإنما هو يدير معركة كلاميَّة لخداع الناس، وفاتهم أن السوريين لم يعودوا ينخدعون بعد أن بدأت ثورتهم التاريخيَّة. ما يؤكِّد كذب وخداع النظام السوري في دعوته للحوار أن ممارساته قمعيَّة لم يسبقْ لها مثيل، وما يفعله اليوم في سوريا أشدّ من مجزرة "حماة" عام 1982م، إنه يرتكب مجزرة متواصلة ومتحرِّكة طالت كل المدن والمناطق السوريَّة، وذهب ضحيتها إلى الآن ألفا قتيل وخمسة آلاف جريح وعشرون ألف معتقل يعذَّبون في السجون، و64400 ملاحق، و15000 مهاجر و30000 ممنوع من السفر، وأكثر من نصف مليون في الشتات لا يستطيعون زيارة بلادهم هم وأبناؤهم وأحفادهم خشية القتل أو الاعتقال. النظام السوري لم يستجبْ لطلبات الشعب ولا لنداءاته المتكرِّرة بالإصلاح، بل هو يصِرُّ على المراوغة والمكر وعلى تنفيذ مخططه الوحيد بقمع الثورة الشعبيَّة السلميَّة التي تطالب بالحرية والكرامة. وحينما وجَدَ النظام السوري أن آلة القمع والقتل لم تفلحْ في مواجهة المظاهرات، لجأ إلى حيلة تشجيع مؤتمرات وملتقيات المعارضة التي لا يمكن تصوُّر أنها تحدث خارج موافقة النظام وبعيدًا عن التنسيق معه، انعقاد هذه المؤتمرات في هذه الظروف في داخل سوريا كمؤتمر فندق سميراميس مثلًا وما صدر عنه، والضرب والاعتداء على شخص لمجرد أنه عبَّر عن رأيه، وحالة الهتاف التي تؤيِّد النظام أثناء عملية الضرب، كل ذلك يؤكد أن هذه المؤتمرات تمت بتنسيق مع النظام وأعوانه، وأنها تنعقد لتخدم النظام أكثر مما تخدم الشعب السوري وثورته التاريخيَّة، بعد أن أظهرت النظام البعثي متساهلًا مع معارضيه ويسمح لهم بالاجتماعات والمؤتمرات. على المعارضة السورية أن تدرك أنها أمام مسئوليَّة تاريخيَّة وأنها يجب ألا تخذلَ شعبها في هذا الظرف التاريخي وألا تبيع الثورة بثمنٍ بخس، وهو ما ظهر في مؤتمرهم في سميراميس، حيث كان سقف مطالبهم منخفضًا وأدنى مما يطالب به الشارع، مكان المعارضة في هذا الظرف التاريخي هو أن يتظاهروا مع من يتظاهر، وأن يسعوا إلى قيادة التظاهرات ويكونوا في مقدمتها، فالمنطق والخبرة يقولان إن الحل الوحيد هو في اقتلاع نظام بشار وتأسيس نظام سياسي حرّ ومفتوح على أنقاضه، فلا أمل في إصلاح نظام قمعي وهمجي وفاسد ومفسد. المصدر: الاسلام اليوم