الأرجح أن هوس التنقيب بين سطور التصريحات الصادرة عن قادة حركة المقاومة الإسلامية حماس ستتواصل على نحو محموم ما بقيت الحركة في الحكومة، ولا نقول في السلطة، لأن السلطة ما تزال بيد حركة فتح، وستبقى كذلك في المدى القريب وربما المتوسط. يحدث ذلك لاعتبارات عدة ، يتعلق بعضها باللعبة الإعلامية الباحثة عن الجديد والمثير، فيما يحدث ذلك أيضاً في سياق مراهنة الكثيرين على تكرار حماس لتجربة فتح التي بدأت بشعار تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، وانتهت إلى ما انتهت إليه في أوسلو وما بعد أوسلو ، وصولاً إلى خريطة الطريق، أكان في سياق طبيعي أم خضوعاً لوطأة الظروف الصعبة المحيطة. قبل أيام تابعنا اللعبة إياها في سياق تصريحات لرئيس الوزراء المكلف إسماعيل هنية لصحيفة واشنطن بوست، مع أن النص المترجم من الإنجليزية إلى العبرية (يديعوت أحرونوت) ومنها إلى العربية كما قرأناه لم يحمل أي جديد سوى الحديث عن الهدنة طويلة المدى التي أراد البعض سحبها على إمكانية الاعتراف بالدولة العبرية. ولولا أن النشر كان في وقت مناسب وتمكنت حماس من النفي قبل صباح اليوم التالي ، لوجدنا الخبر عنواناً رئيسياً في الصحف صباح اليوم التالي. يحدث ذلك بالطبع في سياق تصريحات لآخرين من حماس، وهي في الغالب تصريحات محكية لن يكون من الصعب العبث بها، لاسيما وهي تصدر عن أشخاص لم يتمرس بعضهم في هذه اللعبة، فيما يواجهون بصحافيين يسعون إلى ذلك بكل حماس. تتبدى عبثية هذه اللعبة فلسطينياً وعربياً في بعدين متلازمين إلى حد كبير؛ يتعلق الأول بحكاية التسوية من أصلها، فيما يتعلق الثاني بالموقف الحقيقي لحركة حماس، والذي يحاول التعاطي مع اللغة السياسية النظرية أكثر من أي شيء آخر. بالنسبة للبعد الأول، وعلى رغم بداهة الموضوع إلا أن التذكير به يبدو ضرورياً إلى حد كبير. أعني أسباب فشل عملية التسوية. ذلك أن الدولة العبرية التي رفضت ياسر عرفات كشريك، وها هي تواصل العبث بأعصاب أبي مازن ، لن تقدم للفلسطينيين ما يوازي الحد الأدنى من مطالبهم. ونتذكر هنا أن منظمة التحرير والسلطة وجميع الدول العربية قد أجمعت على أن الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة عام 67، وحتى من دون عودة اللاجئين إلى الأرضي المحتلة عام 48، كما هو جوهر قرارات قمة بيروت، سيعني سلاماً عادلاً وشاملاً وتطبيعاً كاملاً بين الدول العربية والدولة العبرية. ولو توفر للفلسطينيين عرض مشابه هذه الأيام فلن تتردد فتح، وربما بمساعدة مصرية في الانقلاب على اللعبة الديمقراطية برمتها ، وتوقيع معاهدة سلام في احتفال مهيب أمام البيت الأبيض. لعل الميزة الوحيدة لمسار أوسلو هو فضحه لحقيقة الطرح الإسرائيلي المتعلق بعملية التسوية، وهو طرح لم يقبل به لا ياسر عرفات ولا محمود عباس ، ولم تقبل به الدول العربية أو معظمها في أقل تقدير، ويقوم كما هو معروف على دولة على كامل قطاع غزة وحوالي نصف الضفة الغربية من دون القدس ولا عودة اللاجئين، وهي في العموم دولة مجزأة الأوصال يتحكم الاحتلال بها من كل جانب، ما يعني أن استعادة حماس لتجربة فتح من الانطلاقة وصولاً إلى كامب ديفيد، وحتى خريطة الطريق والانسحاب أحادي الجانب، هي العبث بعينه، فضلاً عن تضحيتها بثقة الجماهير، الأمر الذي لن يحدث بحال من الأحوال. نأتي هنا إلى طرح الهدنة الذي ينسب إلى الشيخ الشهيد أحمد ياسين، وقد قلت من قبل إنه طرح حقيقي ومعروف يعود إلى العام 1989 أثناء وجود الشيخ الشهيد في السجن ، وتكرر مراراً بعد ذلك، وأتذكر يومها وكنت رئيساً لتحرير مجلة فلسطين المسلمة الممثلة للطرح الإسلامي للقضية الفلسطينية أننا تأكدنا من الموقف عبر محامي الشيخ، النائب في الكنيست الإسرائيلي (عبد المالك الدهامشة). إنه طرح نظري بكل بساطة، ويدرك الشيخ أنه كذلك، غير أنه في المقابل طرح مقبول من الناحية الشرعية والواقعية، ليس الآن وحسب، وإنما منذ خروجه في عام 89. وينص الطرح كما كرره إسماعيل هنية على الانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة عام 67 ، وإقامة الدولة ذات السيادة الكاملة ، وعودة اللاجئين والإفراج عن الأسرى مقابل هدنة تمتد لعشر سنوات. وهي هدنة لا تتضمن الاعتراف بالدولة العبرية. لو وافق الإسرائيليون على شيء كهذا لكان عنواناً صارخاً لنهاية المشروع الصهيوني الذي تقول لازمته الشهيرة (لا معنى لإسرائيل من دون القدس ولا معنى للقدس من دون الهيكل، والهيكل موجود بحسب الزعم الإسرائيلي في محيط المسجد الأقصى). ولو وافقوا عليه لتحولت الدولة العبرية إلى نقطة في محيط عربي إسلامي، فضلاً عن غالبية فلسطينية ما بين البحر والنهر حتى لو عاد يهود العالم كله إليها. سيبقى هذا الكلام هو وحده المتاح بالنسبة لحركة حماس، ليس فقط لأنه الوحيد الذي يحافظ على مصداقيتها في الشارع الفلسطيني والعربي والإسلامي، بل أيضاً لأن الطرف الآخر لم يوافق على عروض لا يحتملها خطاب حماس. من هنا .. سنظل نقول إن على الذين يتمنون سوى هذا الطرح أن يتريثوا ، وهم يمارسون هواية اصطياد الكلمات من هنا وهناك. ولو ملك قادة فتح والزعماء العرب، فضلاً عن النخب الفكرية والسياسية، لو ملكوا الحد الأدنى من الإخلاص للقضية وللأمة العربية والإسلامية لكان عليهم أن يجمعوا على القول لحماس: ظلوا على ثوابتكم لأنها السبيل الوحيد لفضح تلك اللعبة السخيفة المسماة عملية السلام. ولكن!! المصدر الاسلام اليوم