كشف السجال السياسي الدائر اليوم في واشنطن عن مفارقة بالغة الدلالة، تفكك الكثير من الأساطير التي أحاطت بأوباما منذ توليه الحكم وبالعمليات العسكرية في ليبيا. ففي معرض الدفاع عن نفسه إزاء الاتهامات بعدم الدستورية، استخدم أول رئيس من أصول إفريقية حجة تنضح بالعنصرية والاستهتار بأرواح الليبيين، المفترض أن أميركا تدخلت أصلا لحمايتهم! وأصل الموضوع أن التأييد الواسع الذي حظي به أوباما حين أعلن عن التدخل العسكري في ليبيا، لم يدم طويلا. فقد ازداد تيار الرفض قوة في الفترة الأخيرة. ففي حين كان الرافضون للقرار يوم إعلانه هم الأعضاء الذين يمثلون يسار الحزب الديمقراطي وتيار الانعزالية في الحزب الجمهوري، فقد انضم مؤخرا أعضاء من تيارات أخرى داخل الحزبين. وقد تزايد الرفض لأسباب مختلفة، منها غموض الهدف من العمليات العسكرية، وتغيره من وقت لآخر، وغياب معايير واضحة لما يمكن أن تعتبره الإدارة نجاحا تنهي بعده تورطها في ليبيا. غير أن المنضمين لمعسكر الرافضين، استخدموا أيضا حجة اليسار الديمقراطي منذ البداية، والتي اعتبرت العمليات العسكرية غير دستورية، لأن الكونغرس المنوط به وحده دستوريا إعلان الحرب، لم يعلن أبدا أن البلاد في حالة حرب مع ليبيا، ولا هي حتى قانونية لأن الرئيس خالف قانون سلطات الحرب الصادر في عام 1973. فالدستور الأميركي فعلا يفرق بين سلطة إعلان الحرب وسلطة قيادة الحرب. فالرئيس الأميركي هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، لكنه لا يملك الدخول في حرب دون موافقة المؤسسة التشريعية التي لها وحدها سلطة إعلان الحرب. ثم إن المؤسسة التشريعية هي التي تملك حافظة الأموال الأميركية، ومن ثم على الرئيس طوال قيادته للحرب، أن يضمن موافقة الكونغرس على التمويل. وطوال عمر الدولة الأميركية، لم يعلن الكونغرس الأميركي الحرب سوى خمس مرات فقط، لكن هذا لا يعنى أن أغلب حروب أميركا حدثت دون موافقة الكونغرس. فالأخير يفضل دوما أن يعطى الرئيس "تفويضا باستخدام القوة العسكرية"، بدلا من إعلان الحرب، لأن التفويض يحرم الرئيس من سلطات هائلة تصبح من حقه متى تم إعلان الحرب، بينما ليست من حقه في حالة التفويض. لكن شرط موافقة الكونغرس على الحروب التي تخوضها أميركا، لم يمنع من تورط البلاد في صراعات بائسة، كان عادة ما يتم خلالها إخفاء المعلومات عن المؤسسة التشريعية، لضمان استمرار تأييدها. ففي حرب فيتنام على سبيل المثال، رغم أن الكونغرس قد منح الرئيس تفويضا لاستخدام القوة العسكرية في ما عرف وقتها بقرار خليج تونكين، إلا أن الرئيسين جونسون ثم نيكسون برعا في توسيع نطاق الحرب دون علم الكونغرس، بل ونقلها إلى بلدان أخرى مثل كمبوديا، دون استشارته. ومن هنا، وبعد كارثة فيتنام، كان قانون سلطات الحرب لعام 1973، هو رد الفعل المباشر من جانب الكونغرس يهدف لتقييد الرئيس في وقت الحرب، دون أن يمنعه من حماية البلاد. فالقانون يعترف بأن الرئيس قد يضطر حين تتعرض البلاد لاعتداء خطير، لئلا ينتظر أياما حتى يوافق الكونغرس على استخدام القوة العسكرية. ومن هنا نص القانون على أنه يجوز للرئيس أن يستخدم القوة العسكرية فيرسل قواته لساحة المعركة، دون إخطار الكونغرس مسبقا، بشرط أن يخطره رسميا في غضون 48 ساعة من إرسال القوات، ثم يظل على تشاور كامل ومستمر مع الأعضاء. والقوات تلك التي أرسلها الرئيس، يتحتم عليه إعادتها إلى ثكناتها في غضون 60-90 يوما، ما لم يوافق الكونغرس على بقائها لمدة أطول. والحقيقة أن الولاياتالمتحدة تتدخل اليوم عسكريا في ليبيا، دون إعلان حرب ولا حتى تفويض من الكونغرس، بل إن أوباما لم يخطر الكونغرس "رسميا" في غضون 48 ساعة من التدخل، حتى يتسنى تفعيل قانون سلطات الحرب. ومن هنا وجد أوباما نفسه في موقف ينبغي عليه فيه أن يدافع عن نفسه إزاء الاتهامات بعدم الدستورية، فتفتق ذهن مساعديه عن حجة مبنية على منهج منسوخ من قاموس بوش الابن، وهو التلاعب بالألفاظ. ففي تقرير يقع في ثلاثين صفحة، بعنوان فريد هو "أنشطة الولاياتالمتحدة في ليبيا"، قالت الإدارة إن عملياتها العسكرية هناك "لا تتضمن معارك أو تبادلا لإطلاق نار من جانب قوى معادية، ولا تتضمن أيضا وجود قوات برية أميركية ولا ضحايا أميركيين، ولا يوجد حتى تهديد بسقوط ضحايا. كما لا توجد أية فرصة حقيقية لحدوث تصعيد يتحول إلى صراع يحتمل أن يحدث فيه أي تقدم". إذن، يدافع أوباما عن نفسه ضد الاتهامات بعدم دستورية ما يفعله في ليبيا، بأن يقول إن ما يحدث هناك ليس حربا أصلا، لأنها مجرد "أنشطة" لا يسقط فيها ضحايا أميركيون. أي أن الحرب لا تكون حربا إلا إذا سقط فيها أميركيون! أما القصف الجوي بالطائرات الموجهة إلكترونيا، والتي يروح ضحيتها المدنيون الليبيون يوميا، فهي ليست حربا حتى يحاسبه الكونغرس عليها. بعبارة أخرى؛ فإن أول رئيس أميركي من أصول إفريقية، يستخدم خطابا ينضح بالعنصرية، حيث يعتبر أن حياة الأميركيين ذات قيمة استثنائية لا ترقى إليها حياة الآخرين! لكن أكثر ما يلفت الانتباه في المشهد كله، هو أن مثل هذا الخطاب مر في أميركا دون اهتمام يذكر. وما يدمي القلب حقا هو أن هذا الموقف من حياة المدنيين الليبيين، المفترض بالمناسبة أن أميركا تحارب من أجل حمايتهم، لم يحظ بأي استنكار رسمي في عالمنا العربي نقلا عن البيان: