من يترك السياسة الخارجية الأميركية ويلقي نظرة على التفاعلات الداخلية، يجد نفسه أمام مفارقات لا تقل أهمية في دلالاتها عن مفارقات السياسة الخارجية. ففي منطقتنا مثلا، تحفل السياسة الأميركية بالمفارقات، بل والتناقضات. فأميركا التي لم تؤيد الثورات العربية، تقول اليوم إنها تنوي دعمها بعد أن نجحت طبعا في سعيها نحو التحول الديمقراطي. وأميركا التي تقول إنها تدعم الديمقراطية، هي نفسها التي تدفع بجيوشها لدولة بعد أخرى. ففضلا عن احتلال العراق وأفغانستان، امتدت اليد العسكرية الأميركية إلى ليبيا، بينما يقوم الأميركيون في كل من باكستان واليمن بأعمال عسكرية بشكل أحادي، وكأن الدولتين منزوعتا السيادة. لكن هوس العسكرة في الخارج لا يقل وطأة عن الهستيريا العنصرية في الداخل، التي صارت أكثر تطرفا ووضوحا في أوساط اليمين الأميركي بكل تياراته، بل صار بعض قيادات الحزب الجمهوري مشاركا علنا في تلك الهستيريا. انظر مثلا ما يتعرض له الرئيس الأميركي نفسه من اتهامات، تحمل دلالات وإيحاءات عنصرية لا تخطئها العين. فمنذ نجاح حركة الحقوق المدنية في الستينات في إصدار قوانين تحظر التمييز العنصري، كان هناك دوما قطاع مهم من البيض لم يقبل هذا التحول. ولكن لأن التمييز صار محظورا قانونا، فقد اعتادت رموز الحزب الجمهوري على استخدام لغة شفرية، يلتقطها بسرعة ذلك القطاع من البيض، ويعرف تماما ما تحمله من دلالات عنصرية. فالدفاع عن "حقوق الولايات" في مواجهة الحكومة الفيدرالية، هو في الحقيقة من مفردات تلك اللغة الشفرية. ففترات التاريخ الأميركي التي شهدت معارك كبرى حول حقوق الولايات، ارتبطت كلها بالسود، سواء كان إصرار بعض الولايات على الإبقاء على العبودية وقت كتابة الدستور، كشرط لانضمامها للاتحاد الأميركي، أو إصرار بعض الولايات على الانفصال عن الاتحاد إذا ما ألغيت العبودية، وقت الحرب الأهلية. ثم إن الحكومة الفيدرالية تاريخيا، هي التي أنصفت الأقليات من عنت وعنصرية حكومات الولايات. وتوجد إلى جانب هذا التعبير العشرات من المفردات ذات الدلالات العنصرية، التي لا تزال تستخدم حتى الآن. خذ عندك مثلا؛ التعبير الذي استخدمه مؤخرا الجمهوري البارز ورئيس مجلس النواب الأميركي الأسبق نيوت غينغريتش، فهو اتهم أوباما بأنه يحمل "رؤية كينية للعالم مناهضة للاستعمار". وبغض النظر عن فجاجة اعتبار مناهضة الاستعمار اتهاما، فإن استخدام كينيا في الموضوع جاء متعمدا لإضفاء الطابع "العرقي" عليه. فكينيا لا تحمل وحدها رؤية خاصة في مناهضة الاستعمار، وإنما هي رؤية يتبناها الملايين حول العالم من البيض والسود وغيرهم. واستخدام كينيا يهدف للإيحاء بأن أوباما الأسود ليس "أميركيا"، أو على الأقل ليس أميركيا بالقدر الكافي، ويتبنى أفكارا تنتمي للعالم الثالث، لا لأميركا. وقد وصف غينغريتش أوباما أيضا بأنه رئيس "طوابع الطعام"، أي الذي زاد توفير تلك الطوابع في عهده! و"طوابع الطعام" هو أحد برامج الضمان الاجتماعي التي أنشئت في الستينات، لمساعدة الفقراء الذين ليس لهم مورد رزق، على البقاء قيد الحياة عبر طوابع تصرفها لهم الحكومة الفيدرالية، لا يمكنهم الحصول مقابلها من المتاجر إلا على أنواع بعينها من الأطعمة والمشروبات. لكن لأن اليمين اعتاد أن يصور الفقراء باعتبارهم كسالى لا يريدون العمل، وباعتبار أنهم في الأغلب من الأقليات، فقد صار الحديث عن أي من البرامج المعنية بالفقراء، يحمل دلالات عنصرية موجهة في أغلبها للسود. وهو ما فعله ريغان في الثمانينات، حين اتهم سيدة سوداء تعيش على معونة برنامج الرفاهية الاجتماعية، بأنها "ملكة الرفاهية". لكن التعصب العنصري بلغ مداه، حتى أن الكثيرين صاروا يستحضرون تاريخ العنصرية صراحة، لا باللغة الشفرية. ففي خطاب ألقاه مؤخرا، هدد الحاكم الجمهوري لولاية تكساس، ب"انفصال" الولاية عن الولاياتالمتحدة، إذا ما ظلت إدارة أوباما تجور على "حقوق الولايات". المفارقة في كل ذلك، هي أن أوباما الذي يلاقي كل ذلك لأنه صار رمزا لمكتسبات الأقليات عموما والسود تحديدا، لم يقدم شيئا على الإطلاق للسود في أميركا! فهو منذ توليه يحكم البلاد، كأي رئيس ديمقراطي أبيض، تجاهل السود باعتبار أن أصواتهم أمر مسلم به، لأنه يستحيل أن يعطوا أصواتهم للحزب الجمهوري. فوفق كل البيانات الموثقة، لم تتحسن أحوال السود مطلقا في عهده، إن لم تكن قد ازدادت سوءا. فنسبة البطالة بين السود اليوم وصلت إلى 16%، بينما تصل نسبتها بين البيض إلى 8% فقط. ولا يزال الظلم الواقع على السود، خصوصا في ما يتعلق بالنظام القضائي، يؤدي لوجود أكثر من 50% من السود خلف القضبان، بينما يمثل السود 13% من عدد السكان، ورغم أن الجرائم التي يرتكبونها ليست أكثر في عددها من البيض. وقد وصل تذمر الرموز السوداء من تجاهل أوباما، إلى حد التعبير العلني عن موقفهم. فخلال الأسابيع الماضية، أحدثت تصريحات كورنيل ويست ضجة كبرى. وكورنيل ويست هو من أبرز الشخصيات العامة السوداء، وهو أكاديمي ومفكر يحظى باحترام واسع في الأوساط الفكرية والعلمية. وقد شن ويست، الذي كان قد أيد أوباما أثناء حملته للرئاسة، هجوما قاسيا على أوباما اتهمه فيه بتجاهل قضايا الأقليات وبتجاهله شخصيا، بل واتهمه بأنه خان التقدميين الذين أيدوه، لأنه "صار جزءا من آلة الحرب الأميركية، بل وفخورا بذلك". الموقف في أميركا اليوم، إذن، يدحض التحليلات التي ادعت بخفة وقت فوز أوباما، أن أميركا بانتخابه قد دخلت مرحلة ما بعد المسألة العرقية. والمفارقة هي أن أوباما الذي لم يقدم شيئا للسود والقليل للغاية لغيرهم من الأقليات، هو نفسه الذي أدى توليه إلى تأجيج النعرات العنصرية في أميركا وانتعاش اليمين، وليس العكس! نقلا عن البيان