نشرت وسائل الإعلام المصرية "القومية" و"الخاصة" أخباراً متتالية بدءاً من أغسطس(2014) تفيد بأن مشيخة الأزهر قد شكلت لجنة من أساتذة جامعة الأزهر لمراجعة مقررات المعاهد الأزهرية ما قبل الجامعة وتطويرها، وتنقيتها مما لا أولوية له في ظروف الواقع الراهن، وحذف ما يثير البلبلة في تلك المقررات. على حد ما ورد في تلك الأخبار. ومما نسبته الصحف للدكتور عباس شومان، وكيل الأزهر، قوله" إن الهدف من التطوير تخفيف المناهج وتقليل عدد المواد المقررة دون الإخلال بالمحتوى مع المحافظة على الأصالة وعلاج المشكلات المعاصرة، مضيفًا: "وأعتقد أنها ستنقل التعليم الأزهرى نقلة كبيرة فى المرحلة المقبلة" (اليوم السابع 13 /8/2014). هناك من يرى أن هذه الخطوة جاءت بعد أن تقدم بعض المحامين ببلاغات إلى النيابة العامة ضد شيخ الأزهر ورئيس قطاع الكتب بالمدارس الأزهرية، منها بلاغ رقم 2532 نيابة استئناف الإسكندرية بتاريخ (4/8/2014) بتهمة إهانة الإسلام بما تحتويه بعض مقررات التعليم الأزهري قبل الجامعي من مغالطات، ومسائل جزئية فات زمنها ولم يعد لها علاقة بالواقع. ولكن مسئولي الأزهر يردون على ذلك بأن لجنة تطوير المناهج ومراجعتها وتنقيتها مشكلة منذ عام مضى، وأن عملها ليس رد فعل على مثل تلك الدعاوى، وأن مشيخة الأزهر أرادت الانتهاء من هذا العمل قبل بداية العام الدراسي (2014/2015). كلام طيب. ولكن أياً كانت الدوافع التي حركت مشيخة الأزهر للقيام بهذه الخطوة، فإنها خطوة بالغة الأهمية وإن جاءت متأخرة جداً. والذي نعرفه أن الدعوة لتطوير المؤسسة التعليمية الأزهرية ليست بنت اليوم ولا الأمس القريب، وإنما ترجع إلى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، ثم كانت لها جولة وضجة كبرى في الستينيات منه أيضاً. ولكن السؤال الأهم في السياق الراهن هو: هل المشكلة فقط في احتواء المقررات الأزهرية على بعض المسائل والآراء التي لم تعد ملائمة للواقع؟ أم إنها أعمق من ذلك وأكثر شمولاً؟. وإذا افترضنا نجاح عملية التنقيح التي تقوم بها اللجنة المنوط بها هذه المهمة، هل هذا يعني أننا قضينا على ذرائع "الهجوم على الأزهر ومحاولات تشويهه"؟ أم نكون قد قضينا على ما يعتبر من منابع "التطرف" وربما الميول "الإرهابية" - كما يدعي المتطاولون على الأزهر وشانئوه - لدى خريجي تلك المعاهد الأزهرية وجامعة الأزهر ذاتها ؟. تلك الأسئلة وما شاكلها بحاجة إلى نقاشات متعمقة. وما نود التأكيد عليه هنا هو أن أحداً لا يجادل في ضرورة تطوير المقررات الدراسية الأزهرية في مختلف المراحل التعليمية، ماقبل الجامعية والجامعية أيضاً. فهي باتت في جوانب منها بعيدة عن متغيرات الواقع وتحدياته فعلاً، ولا تزال تحتوي على "أمثال شارحة" أو "مسائل مشروحة" لم يعد لها حضور في الواقع. ويصعب جداً على طلاب الأزهر استحضارها في أذهانهم، أو استيعاب المقصود منها واستنباط أدوات لتطبيقها في الواقع العملي الذي يواجهونه في حياتهم العملية اليومية. وفي تلك الأمثال الشارحة والمسائل المشروحة يجد المغرضون والشانئون للأزهر بغيتهم، ويتخذونها ذريعة للزراية على التعليم الأزهري ومنتسبيه. لكني أرى أن "تنقيح" المقررات وحده لا يكفي، وإن كان خطوة لابد منها. وأتحفظ كثيراً أيضاً على منهجية هذا التنقيح التي أشار إليها بعض مسئولي الأزهر وقالإنها تعني "حذف" بعض المسائل، و"دمج" بعض المقررات في بعضها تخفيفاً على الطلاب . "الحذف" و"الدمج" ليسا من جنس التطوير أو الإصلاح لأي مقررات تعليمية، وبخاصة إذا كانت مقررات للتعليم الأزهري في علوم التفسير والحديث والفقه إلخ. وكل ما يمكن قوله أن الحذف والدمج لا يتانم إلا من موقع "رد فعل"؛ إبراءً للذمة ودفعا للتهمة في أحسن الافتراضات. ولا توجد سابقة واحدة من سوابق النجاح العالمية أو الإقليمية في تطوير المقررات التعليمية وإصلاحها اعتمدت على آليتي "الحذف" و"الدمج" فقط. إن "منهجية" إصلاح مقررات التعليم الأزهري وتطويرها يتعين أن تنهض في رأيي على ساقين قويين: الساق الأولى هي ساق الأصول والثوابت الموروثة التي بنيت عليها "العلوم الشرعية"(بالمعنى الضيق لما هو علم شرعي) مثل: ثوابت العقيدة، وقواعد تفسير القرآن ومناهجه، ومناهج دراسة الحديث وحجية السنة، وأصول الفقه، والكليات والقواعد الفقهية، وعلوم اللغة العربية مثلاً. والساق الثانية هي تجديد الأمثال الشارحة التي تتناول تلك القواعد والأصول بأهداف تربوية وتعليمية ؛ لأن ضرر الاستمرار في تكرار الأمثال الشارحة الموروثة من عهود سابقة أكثر من نفعه قولاً واحداً، هذا من جهة ، ويجب من جهة ثانية أن تتم عصرنة المسائل المشروحة، فمن الخطأ كل الخطأ بمعايير أصول التربية والتعليم أن تظل المسائل المشروحة المستمدة من مشكلات بيئة القرنين السادس والسابع الهجريين وماقبلهما هي هي التي يدرسها طالب اليوم ابن القرن الخامس عشر الهجري. يتعين أن تقدم له مسائل الواقع وقضاياه بأمثال شارحة محتفظة بطزاجتها وحيويتها وهو يمر بمختلف مراحل مساره التعليمي؛ بحيث يتخرج وهو مؤهل وجدانيا وعقلياً ونفسياً للحياة العملية ويكون قريباً من مشكلاتها وتحدياتها الراهنة والمستقبلية. وإضافة إلى ما سبق أقول: إنه ما لم يوضع "التطوير" أو "الإصلاح" القائم على هاتين الساقين القويتين في إطار إصلاحي يشمل مختلف مؤسسات التنشئة والتربية والتقثيف العام في المجتمع فإن المحصلة ستكون هزيلة للغاية. وإذا حدث وانحصر الإصلاح والتطوير في "المقرر الدراسي" فإنه سيظل عملاً معزولاً، قليل الفائدة حتى وإن قام على هاتين الساقين القويتين . وساعتها قد تظهر موجة جديدة من الهجوم "الإعلامي" أو "العلماني" على الأزهر، وقد يكون رد الفعل الأزهري ساعتها هو أننا لم نقم بما فيه الكفاية من "الحذف والدمج"؛ ويكون الحل هو مزيد من حذف المواد والمقررات، أو دمج مزيد منها في بعض ، وهكذا إلى أن تنحسر المادة العلمية الأزهرية الأصيلة، أو تصبح شاحبة لا معنى لها بعد أن تضمر تحت وطأة هجوم الشانئين للأزهر وتصويره كمتهم وحيد ومسئول وحيد. لا يخفى على كل من اشتغل بإصلاح وتطوير المؤسسات التعليمية أن "المقرر" الدراسي هو وحدة واحدة من وحدات إصلاح وتطوير المعاهد أو "المدراس"(أزهرية كانت أو غير أزهرية)، وأن المعاهد أو المدراس برمتها ليست إلا "مؤسسة" واحدة من مؤسسات عدة تتشارك في عملية التربية والتعليم والتنشئة والتوجيه والتكوين الثقافي والوجداني للأجيال الجديدة بصفة عامة. وأهم هذه المؤسسات المتشاركة في هذه المسئولية: الأسرة، والمسجد/الكنيسة، والمدرسة، ووسائل الإعلام، والفنون والآداب، وجماعات الرفاق، والأندية ، ومؤسسات المجتمع المدني، والجيش(في مرحلة من مراحل التكوين والاندماج الوطني). ويجب أن تتناغم كل هذه المؤسسات في أدائها. أما إذا كانت مؤسسة أو أكثر تهدم ما تقوم بها مؤسسة أخرى مثل مؤسسة "التعليم الأزهري"، فلن ينفعحينها شيئاً أن تكون لدينا "مقررات " حائزة لكل معايير الجودة . ومن المفيد هنا إعادة التأكيد على أن إصلاح وتطوير "المقرر الدراسي" خطوة جيدة، ولكنه لا يكفي وحده. ومن أدلة عدم كفايته: أن منظومة التربية والتعليم بشكل عام (أزهري وغير أزهري)، تواجه أزمة حادة نتيجة لمجموعة من العوامل والتحديات الداخلية والخارجية التي جعلت دور "المدرسة" ، أو "المعهد" يحتل مرتبة متأخرة على مؤشر المؤسسات ذات التاثير الأكبر في التنشئة والتربية والتعليم والتثقيف. ويتجلى ذلك في ناحيتين أساسيتين هما: 1 تراجع تأثير بعض المؤسسات التقليدية للتنشئة والتعليم بشكل عاممثل: المدرسة والأسرة . وصعود تأثير أدوات أخرى في مقدمتها الإعلام (التلفزيون الفضائيات الإنترنت ...) وهي من الوسائل الحديثة فائقة التطور والتأثير مقارنة بدوروتأثير الأسرة والمدرسة. 2 ما تتيحه الثورة الهائلة في تكنولوجيا المعلومات والاتصال من فرص كبيرة لنقل الأفكار والقيم والمعايير من مجتمع إلى آخر عبر العالم، وعبر الثقافات المختلفة، وسهولة استيعاب طلاب التعليم ما قبل الجامعي (أزهري وغير أزهري)واستخدامهم الكثيف لتلك التكنولوجيا؛ الأمر الذي يؤدى إلى تضييق نطاق الخصوصية الثقافية والحضارية التي ينتمون إليها ويعتزون بها، وهو ما يؤدي إلى ضعف سلطة الأب والمدرس(الأسرة والمدرسة)، وتوسيع نطاق المشتركات الثقافية والحضارية التي تربطهم بغيرهم من أبناء الحضارات الأخرى.وهنا فإن الطالب الأزهري الذي يدرس مسائل تنتمي إلى قرون خلت، ويجري شرحها له بأمثال شارحة انقطع وجودها من الواقع، سيجد نفسهفي عزلة تامة عما يجري حوله. ويصبح في "غربة" معرفية ووجدانية عن تحديات هذا الواقع، والأدهى من ذلك أنه سيشعر حتماً ب "لا جدوى" ما تناوله من معارف ومعلومات لا يعرف صلتها بهذا الواقع وتعقيداته. فى مثل هذا المناخ المتأزم والمليء بالتحديات، تجد المؤسسات التعليمية الأزهرية نفسها مطالبة بضرورة تطوير ليس فقط "مقرراتها" وإنما برفع كفاءةأدائها العامبدءاً من سياسة القبول في معاهدها الابتدائية، وصولاً إلى تغيير الثقافة السائدة في مختلف مراحلها التعليمية وأقول الثقافة السائدة القائمة على الامتثال والمبالغة في الإنصات دون الجرأة على النقاش وإثارة الأسئلة ومحاورة الأساتذة مروراً برفع كفاءة كوادرها التدريسية وكفاءتها الأدارية وتحديث الأدوات والوسائلالتعليمية الأزهرية، مع التنسيق الفعال معبقية مؤسسات التنشئة والتربية والتعليم . ستظل الذاكرة الجماعية للمصريين تذكر دفاع الشيخ شومان المجيد عن الأزهر في ردوده على وزير الثقافة ونقده لبعض أدوار وزارة الثقافة التي لا تخدم هذه الرؤية الإصلاحية الشاملة. ونحن مع الشيخ شومان فيما تمناه للمقررات الأزهرية عندما قال إنها "ستنقل التعليم الأزهرى نقلة كبيرة فى المرحلة المقبلة"، نحن معه: نحب ونأمل ذلك، ولكن حكمة السابقين قضت يا مولانا بأنه "لا تُرددُّ صدورُ الخيلِ بالكتبِ" وأقول: ولا بالمقررات الأزهرية وحدها وإن كانت حسنة في ذاتها.