كفاني المعلم جلال عامر – رحمه الله –بالأمس شر الخوض في الموقف العربي من أحداث غزة اليوم (وكل يوم وأشوف في هذا الموقف يوم!)، حينما قال وأجاد، "الجميع يعامل غزة وكأنها عشة فراخ على السطوح يطلع يحط لها الأكل ويعالج الجريح ويرمى الميت وينظف تحتها وينزل بينما هى قضيتنا الكبرى!". (تمام كِده يا معلم). ما قد أضيفه اليوم من خيبات جديدة في الموقف العربي الأخير من أحداث غزة هي خيبتان، الأولى، في تلك الأصوات والأقلام العربية "المتصهينة"، التي خرجت من جحورها أثناء العدوان الصهيوني على غزة، وأخذت تنفث سمومها تجاه المقاومة (وإلى من قد ظن الآن بميلي لحماس أقول "حماس لا أدّعيه"!) وأهالي غزة الأبطال الشرفاء، وأنا والله لولا تنزيه النفس عما يشينها واحترامي لهذا المنبر وقرائه لأسمعت هذه الطغمة المتصهينة ما كان ليحسدني عليه الحطيئة! وسبحان من جعل العبرة في أحدهم والذي للأسف كان على رأس أحد أعرق وأهم الصحف العربية، عندما قام خلال شدة الهجوم الصهيوني على غزة، بكتابة "تغريدة" في حسابه على موقع تويتر، والتي كانت على شكل دعاء بالنصر على الأعداء... الدعاء لمن بالنصر؟! "نتنياهو"!.. ومن الأعداء؟!.. "أهالي غزة"! ليحق الوعيد بعدها بساعات قليلة من التغريد! وتقبض روح الكاتب بمرض مفاجئ (ولست هنا من الشامتين معاذ الله إنما أردت العبرة لمن لا يعتبر، ورحم الله المتوفى وغفر له)، ولتعلن بهذا السماء بأن لحوم أهالي غزة أشدُّ سماً من لحوم العلماء! أما الخيبة الثانية – وهي أدهى وأمر! – ففي تفوق أشكال الدعم الشعبي الغربي وذلك الذي من خارج "البيت العربي"، تجاه نصرة غزة وأهلها، عبر مسيرات المظاهراتالكبيرة التي شهدتها مدن وعواصم أوروبية وأمريكية وفي باقي أنحاء العالم، والتي تم وصفها بأنها أكبر مظاهرات شعبية مؤيدة لقضية ما، شهدها التاريخ البشري. مثل هذه المظاهرات أتت كرسالة تخاطب أمثال الذين لم يزلوا متمترسين خلف "القومية العربية"، ومضمونها بأن العالم أصبح اليوم وبفضل غزة قرية إنسانية صغيرة! الدعم الإنساني العالمي لم يقف عند حد المظاهراتفقط بل تجاوزها عبر حملات مقاطعة للشركات الإسرائيلية أو التي تستثمر في إسرائيل، وأبرز هذه الحملات تلك التي دشنها الموقع الالكتروني "avaaz.org" (هذا الموقع يُعتبر الأبرز دولياً في تدشين ودعم الحملات الانسانية عبر تفاعل وجمع المؤيدين لقضية ما)، تحت عنوان، "من أجل غزة.. حاصر حصارك"، وتستهدف مقاطعة الشركات التي تستفيد من الكيان الصهيوني في عدوانه على غزة كعلى سبيل المثال لا الحصر، شركة جي فور إس (G4S) التي تقوم بتقديم معدات وخدمات أمنية للجيش والشرطة الإسرائيلية على الحواجز وجدار التمييز العنصري والسجون التي يحتجز فيها الفلسطينيين. علماً بأن هذه الحملة قد استقطبت حتى الآن قرابة 1800000 شخص من مختلف أنحاء العالم وتهدف إلى أن يصل الرقم إلى مليونين. هذه الحملة تصل بي للحديث عن أحد أشهر داعميها وداعمي النضال الفلسطيني ضد المحتل ألا وهو كبير أساقفة جنوب أفريقيا السابق الحائز على جائزة نوبل للسلام ورفيق نضال رمز الحرية "نيلسون مانديلا"، السيد المبجل/ ديزموند توتو، الذي تفرد بدعم الحملة وغزة معاً بشجاعة فكرية منقطعة النظير عبر نشره لمقالٍ مطوّل قبل أيام قليلة في صحيفة هآرتس الإسرائيلية تحت عنوان، "ندائي إلى شعب إسرائيل: حرروا أنفسكم بتحريركم فلسطين". ولكم أن تدركوا مدى الثقل الدولي الذي يتمتع به توتو، الذي أرغم أهم صحيفة إسرائيلية بنشر مثل هذا المقال والذي أقل ما أصفه ب "الهجوم الفكري الكاسح" ضد الطغيان الإسرائيلي. وأتشرف اليوم أن أنقل للقارئ ترجمة لفقرات مقتضبة بتصرف من المقال، وإن كان لا غنى عن قراءته حرفاً حرفا، وأدع الكلام لتوتو الآن. "شاركت قبل أكثر من ربع قرن في عدة مظاهرات وفعاليات مؤيدة للقضية الفلسطينية ومنددة بالاحتلال الإسرائيلي وسياساته تجاه الفلسطينيين القائمة على الفصل العنصري والإرهاب والقتل، ولم أكن لأتوقع أن تقام مظاهرات بذاك الحجم والعدد مجدداً، ولكن بالأمس القريب شهدت مدينة كيب تاون مظاهرة تُعد الأكبر في تاريخ جنوب أفريقيا وشارك فيها جنباً إلى جنب، شباب، كبار السن، مسلمون، مسيحيون، يهود، بوذيون، هندوس، ملاحدة، سود، بيض، حمر...، وقد طلبت منهم أثناءها أن نهتف بصوت واحد: نحن ضد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.. نحن ضد الظلم والعنصرية والإرهاب الإسرائيلي ضد الفلسطينيين.. ولكننا لسنا ضد اليهود". "لقد تقدمت بطلب قبل أيام من المظاهرة إلى القائمين على الاتحاد الدولي للمهندسين الذي كان يعقد مؤتمره في جنوب أفريقيا، بأن تتم إلغاء عضوية إسرائيل في الاتحاد، كما وناشدت الوفد الإسرائيلي المتواجد في المؤتمر والذي ضم مهندسين ومهندسات، بأن يمتنعوا عن مشاركة الحكومة الإسرائيلية في تصميم وتنفيذ مشاريعها المتعلقة ببناء المستوطنات غير المشروعة في الأراضي الفلسطينية أو بناء أنظمة الفصل العنصري ونقاط تفتيش الجيش والشرطة". "بالأمس القريب شارك الملايين في الحملة التي أطلقها الموقع الالكتروني (Avaaz) وتهدف لمقاطعة الشركات الإسرائيلية أو تلك التي تستثمر في إسرائيل، وها هي الحملة تأتي ثمارها فمنذ إنطلاقها قامت 17 دولة أوروبية بحثِّ مواطنيها على عدم التعامل التجاري أو الاستثمار في تلك الشركات التي وردت اسماؤها في موقع الحملة. كما وشهدت مؤخراً الشركات المذكورة في حملة المقاطعة سحب استثمارات بالملايين من قبل المستثمرين ومن بينهم الملياردير الأمريكي/ بيل غيتس، عندما قام بسحب جميع استثمارات مؤسسته الخيرية "بيل وميلندا غيتس"،من شركة جي فور إس". "نريد أن نكرر في فلسطين ما قمنا به في جنوب أفريقيا جنباًبجنب نيلسون مانديلا، عندما أرغمنا بحركتنا السلمية الحكومة العنصرية آنذاك أن تخضع لمطالبنا، ولم تكن حركتنا حينها لتنجح لولا الدعم الجماهيري الكبير في داخل جنوب أفريقيا وخارجها عبر حملات مقاطعة النظام العنصري وفرض العقوبات وسحب الاستثمارات". "الحكومة الإسرائيلية منشغلة ومستمتعة في إبقاء الصراع مع الفلسطينيين وهي بذلك تجر شعبها إلى غد ليس فيه أمن وسلام، وأنا أناشد شعب إسرائيل أن يضع نفسه في موضع الشعب الفلسطيني المظلوم والمحاصر، وأن يتذكر ما جاء في التوراة من أن الإله دائماً منحاز لجانب الضعيف..، لذا فإن دعمكم لشعب فلسطين نحو الحرية وإنهاء الظلم والعدوان ضده، هو في النهاية خلاصكم المنشود". "أنا ضد كل أشكال العنف من الجانبين وقد قمت بإدانة الجهة الفلسطينية المسؤولة عن إلقاء القذائف والصواريخ على إسرائيل، ولكن في ذات الوقت يجب أن نعي بأن شعب فلسطين لديه كامل الحق في الدفاع عن كرامته وحريته". "اختم مقالي بمقولة مانديلا الشهيرة: لن يشعر الجنوب أفريقيين بالحرية حتى ينعم بها الفلسطينيون...، وربما كان ليضيف مانديلا، بأن في حرية الفلسطينيين حرية الإسرائيليين معاً". واختم أنا بدوري مقالي هذا بتحية شكر وتقدير ومحبة لهذا الصوت الأفريقي الانساني الشجاع الحُر، الذي وللمفارقة أجد لموقفه من غزة والقضية الفلسطينية مُورداً كريماً عند الله في قوله سبحانه، "ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون". بينما "إخواننا في الله"، ومن هم أولى الناس بنصرة غزة والقضية الفلسطينية كالجماعة الأفريقية "بوكو حرام" وباقي "مجاهدي الغفلة"، "هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا"؟!، سوى في إرهاب وقتل الأبرياء وتشويه الإسلام، "وبئس الورد المورود"!