أسباب التقدم والتخلف في المجتمعات والدول أشبه بالسنن الكونية وهي متعددة ، ولا تأتي خبط عشواء ، وإنما بتراكم الخبرة والعلم والدراسة والمران ، غير أن واحدا من أهم ما يميز الدولة الذكية المتقدمة العمل وفق استراتيجيات مستقبلية ناضجة وشديدة العقلانية ، ولا تصدر سياساتها وفق عواطف مجردة فضلا عن أن تكون قصيرة النظر ، ولا يتخذ قادتها قراراتها باندفاع عاطفي أهوج أو على خلفية كراهية شخصية ، فسياسة الدولة ومصالح ملايين مواطنيها أخطر وأعقد من اندفاعات العواطف والطيش والاغترار بالعضلات في لحظة ما ، تذكرت ذلك وأنا أقرأ ما بثته وكالة رويترز صباح اليوم من تصريحات اللفتنانت جنرال مايكل فلين ، رئيس مخابرات وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" التي حذر فيها من أن تدمير حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين "حماس" قد تكون مآلاته أخطر بكثير من بقائها في غزة أو فلسطين ، لأن تدميرها قد يؤدي حسب قوله إلى ظهور شيء أخطر منها بكثير مكانها ، وقد أشار إلى أن صورة المستقبل شديدة التشاؤم بالنسبة للصراعات المفتوحة ، الخبير الذي وصفته الوكالة بأنه مسؤول كبير في مخابرات الجيش الأمريكي أضاف قائلا في منتدى أسبين للأمن في ولاية كولورادو الأمريكية "لو دمرت حماس واختفت فربما ينتهي بنا الأمر بشيء أسوأ بكثير، سينتهى الأمر بمواجهة المنطقة لشيء أسوأ بكثير". الخبير الأمريكي لا يصدر عن أي تعاطف مع حماس ، بل هو ملتزم بتصنيفها حسب القرار الرسمي لبلاده كحركة إرهابية ، وإنما هدف إلى إعطاء رؤية استراتيجية لصانع القرار الأمريكي حول مآلات الأمور واحتمالاتها في الحملة الموجهة لحركة حماس حاليا ، وكلامه واضح وإن كان غير مباشر ، بأن بقاء حماس قد يكون أفضل للسياسات الأمريكية وحتى لإسرائيل الآن من زوالها بقوة السلاح إن استطاعوا ذلك أصلا ، وهي رؤية تنبع من دراسة خريطة العنف والسلاح والرمال الميليشاوية المتحركة والفوضى الواسعة في منطقة الشرق الأوسط حاليا ، فأنت تختلف مع حماس وتعاديها ولكن في النهاية أنت تتعامل مع قيادات سياسية معتدلة وتعمل وفق قواعد ناضجة وتحترم الحدود الدنيا من العلاقات الدولية ، وصحيح أن بقاءها ينغص عليك حياتك ويقلل من إحساسك بالأمن ويفرض عليك خسارة بعض مما كنت تعتبره "غنيمة" لك ، ولكن بالمقابل وعلى المستوى الاستراتيجي أنت ربحت أو خففت خسائر ضخمة إذا صنعت برعونتك فراغا سياسيا وأمنيا في تلك المنطقة بإزاحة حماس ستشغله قوة أخرى حتما ، وقد تكون أكثر عنفا وانفلاتا وأبعد ما يكون عن قواعد اللعبة السياسية على النحو الذي تراه في سوريا والعراق وليبيا واليمن حاليا ، وغير ذلك من المناطق التي لا ندري إلى أي منها سيتمدد هذا السيل ، والمؤكد أن هذه الرؤية هي في خلفية صانع القرار وصاحب القرار الأمريكي والغربي وهو يتعامل مع الملف الفلسطيني الآن ، فكراهيتهم لحماس وبنيتها الفكرية شيء وحسابات الواقع ومصالحه شيء آخر . والحقيقة أن هذا العقل السياسي الناضج هو أكثر ما يحتاجه العرب هذه الأيام ، وهم أولى به ، لأن النار والدم والرعب على أرضهم وبين ديارهم ، ولأن كثيرا من النظم السياسية القائمة تحمل كراهية وخوفا من القوى والأحزاب السياسية الإسلامية ، وهو خوف لا يمكن استبعاد وجاهته في بعض الأحيان ، ولكن التعامل مع الظاهرة لا يكون بالإقصاء والقمع والتصنيف الاعتباطي بالإرهاب واستعراض العضلات العسكرية والأمنية وغلق قنوات الحوار والعنجهية السياسية الساذجة ، لأنه ثبت بوجه القطع أن هذه النزعات لا تحل هذه النوعية من المشكلات بل تفاقمها ، بل إن الإرهاب نفسه هو وليد تلك السياسات في معظم الأحيان والدول ، وإنما يكون التعامل الناضج بالفرز العقلاني والواقعي بين قوى الاعتدال وقوى العنف والتطرف ، والنجاح في استيعاب قوى الاعتدال في التيار الإسلامي في مشروع سياسي جاد وفاعل ومقنع ، فهذا يجعل مجرى النهر الهائل الذي يمثله ملايين الشباب العرب المؤمنين بهذا التيار حاليا يصب في مسارات آمنة وعقلانية وتشاركية ، ويحوله إلى عامل استقرار وأمان وقوة للنظام السياسي ودافع للتنمية والنهوض وينضج خبراته السياسية وثقافة الديمقراطية لديه وكل ذلك يصب في النهاية لصالح بناء دولة مؤسسات قوية وناهضة على النحو الذي نراه في تركيا مثلا ، بينما انسداد هذا المجرى لن يوقف جريان النهر ، ولكنه فقط سيحول تدفقه إلى مسارات أخرى أكثر عنفا وانفلاتا وفوضوية وتصادمية ومشحونة بمشاعر اليأس والثأر والغضب والانتقام والإقصاء المضاد ، فأنت لا تواجه تنظيما متطرفا محدود الأفراد والقيادات أو حزبا سياسيا ، وإنما تواجه تيارا شعبيا له حاضنة اجتماعية بملايين البشر . ورغم أن الكثير من دول العالم الثالث بدأت تعي هذه الدروس لاستيعاب الحراك الشعبي والديني في بلدانها في أطر ديمقراطية تحقق الأمان والاستقرار وتؤسس للتنمية وتنزع الأحقاد والثارات ، إلا أن المؤسف أن غالبية النظم العربية ما زالت تؤسس سياساتها على منهجية السحق والاستباحة والمواجهة إلى آخر مدى ، رغم أنها مغامرة غير مأمونة العواقب ، وتكلفتها باهظة جدا ، ويمكن أن تستغرق أعواما كثيرة من القتل والإنهاك الاقتصادي والأمني والإرهاق العسكري وتخريب وتدمير أي خطط للتنمية وجعل الدولة والوطن مفتوحا على انقسامات خطيرة واحتمالات شديدة الغموض ، وكل ذلك كان يمكن حله بسهولة إذا وجد العقل السياسي الناضج من البداية والقادر على التخطيط الاستراتيجي الحقيقي لبناء دولة ووطن ناهض ، والمؤسف أن الدروس لا يتم استيعابها عادة إلا بعد فوات الأوان ووصول الواقع إلى نقطة اللا عودة .