أحدثت إحدى مذيعات القنوات الفضائية الخاصة التي يمتلكها أحد رجال الأعمال المصريين شرخا في جدار العلاقات المصرية المغربية؛ إذ تطاولت المذيعة على المملكة المغربية الشقيقة وملكها الرشيد.. من أجل ذلك بادرت بكتابة هذا المقال في محاولة مني لتوضيح بعض الحقائق المهمة التي تجهلها تلك الإعلامية.. إن العلاقات المصرية المغربية علاقات تاريخية متجذرة تضرب بجذورها العميقة في أعماق التاريخ، وتحرسها وتكرسها وترسخها الأخوة الدينية، واللغة الواحدة، والتاريخ المشترك، وأخوة النسب الشريف المتصل بحضرة النبي (صلى الله عليه وسلم).. ولقد بدأ التواصل بين مصر والمغرب منذ القرن الهجري الأول واستمر عبر تاريخنا الطويل، منذ الرحلات السنوية إلى الحج، حيث كانت مصر مدخل الحجاج المغاربة إلى الأراضي المقدسة، كما كانت منطلق كتائب الفتوح الإسلامية الكبرى، التي انطلقت إلى مختلف البلاد وخاصة إفريقيا، كما تم هذا التواصل وتعزز عند فتح الأندلس بقيادة طارق بن زياد، حيث اشترك جنود الفتح من المغرب مع إخوانهم المجاهدين من مصر. والأزهر الشريف هو الحاضن الأكبر للثقافة الإسلامية على مدى التاريخ، حيث احتضن ميراث النبوة ونقلها إلى العالم كله، خاصة إلى بلاد المغرب العربى التى تصف الأزهر بأنه قبلتها العلمية. وبلغ من حبَّ المغاربة لمصر أن أرسلوا أبناءهم فى رحلات علمية متدفقة ومتتابعة ومتواترة، قديمة ومتجددة –فيما عرف بالرحلة المغربية للأزهر الشريف- للدراسة فى الأزهر الشريف، مما جعل المصريين يخصصون رواقًا كبيرًا مخصصا للسادة المغاربة الدارسين في الأزهر الشريف، والرواق عبارة عن مكان مخصص للإقامة والإعاشة الكاملة، يقدم طعامًا وإقامة وكسوة وجرايات ومرتبات ومخصصات كثيرة وخدمات جليلة، تكريمًا وراحة لهؤلاء الضيفان. ولقد حرص ملوك المغرب الكرام على تمثيل الأزهر الشريف -تمثيلا مناسبا- واستضافة علمائه فى المجالس العلمية المغربية والدروس الحسنية.. كما قام العديد من أبناء مصر ورجالاتها وأقطابها وعلمائها، بالرحلة العلمية إلى جامعة القرويين للأخذ عن شيوخها، والرواية عنهم، والتلقي منهم، وملازمتهم فترات تطول أحيانا وتقصر أحيانا أخرى، بحسب الحاجة والاستعداد، ثم يعودون إلى بلادهم ليعلموا الناس، أو يظل بعضهم في القرويين إذا اختاروا البقاء فيها لمواصلة الدرس والعطاء فيصبحون ضمن أساتذتها وشيوخها، أو يختارون القضاء والفتوى تظلهم رحابها، ويقبل عليهم رجالها وسكانها، كما أكد (كريستوفتش) ونذكر منهم على سبيل المثال: هبة الله المصري، وأبو الوفاء المصري، وابن حمويه الإسكندري، وابن أبي شاكر الأربلي، وأبو علي البقالي، وخلوف، وابن ميمون... وغيرهم كثير. وهكذا يظل الأزهر والقرويين شاهد عيان على عمق الإخوة المغربية المصرية. *** إن المملكة المغربية لها مكانة سامقة في قلوبنا نحن المصريين والعرب والمسلمين.. فإذا كان المغرب يمثل بوابة الأمن والحماية الغربية لوطننا العربي الإسلامي؛ فإنه في الوقت ذاته يمثل بوابة الحماية المعنوية وحماية الفكر الديني الإسلامي المستنير، بما يحمله من تراث الإسلام الحنيف، ورصيد النسب الشريف المبارك المتصل بسيد الخلق سيدنا ومولانا ومصطفانا محمد (صلى الله عليه وسلم). إن تاريخ المغرب حافل بالعطاء للمغاربة والعرب والمسلمين بل وللناس أجمعين... المغرب الذي حمل تراث الأجداد من العرب والأمازيغ والمسلمين.. وأسهم في حمل التراث الإنساني الخالد ليورثه للأجيال المتعاقبة جيلا بعد جيل.. ولقد شهدت المملكة المغربية الشريفة منذ اعتلاء جلالة الملك محمد السادس عرش أسلافه المنعمين تطورات في شتى ميادين الحياة (الدينية، والثقافية، والتربوية، والاجتماعية والاقتصادية والسياسية)، وقد آلى –وفقه الله- على نفسه؛ إلا أن يبعث روحًا جديدة لينقل المغرب نقلة نوعية في اتجاه تطوير البلاد من أجل اللحاق بركب التقدم لاسيما وأن بلاده تجاور جغرافيًّا الحضارة الأوروبية. وقد سعى إلى إحداث تطوير شامل في بنية الحياة المغربية من خلال رؤية استراتيجية ومنهجية واضحة المعالم، تصب في خدمة الشعب المغربي وتحقيق تنميته ماديا ومعنويا. ولعل المشروعات الاقتصادية العملاقة التي نتابعها بين الحين والآخر لهي خير شاهد على ذلك، فعلى المستوى الاجتماعي فقد عمد الملك محمد السادس إلى تلاحم الرعية مع الراعي؛ لمواجهة التحديات، وعمل على ترسيخ مفهوم المساواة، والعدالة الاجتماعية، ورعاية الفقراء والمعوزين، فضلا عن تلاقيه المباشر مع عموم الشعب، وتكثيف زياراته للأماكن النائية والبعيدة؛ للوقوف بنفسه على أحوال الشعب، واضعًا نصب عينيه نموذج أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لتثبيت القيم والمثل والمبادئ الإسلامية في إمارة المؤمنين، متخلقا بأخلاق الإسلام النبيلة وعلى رأسها قيم الرفق والرحمة والتواضع، ولعل زيارته المتكررة إلى شتى ربوع المملكة لميزة تميز هذا الملك الشاب عن غيره من الحكام والرؤساء والملوك المعاصرين. إن رعاية الملك محمد السادس لإخوانه من أصحاب العاهات والضعفاء وذوي الاحتياجات الخاصة من المعوقين وأصحاب الحاجات.... وإدماجهم في المجتمع لتدل على قلبه الرحيم، وعلى تخلقه بالأخلاق النبيلة التي أرساها الإسلام الحنيف. وفي المجال السياسي فقد عمل –سلمه الله- على تطوير نظام الحكم بما يتناسب مع الأصالة والتجديد، ومما يحسب له ويشهد به التاريخ أنه فتح المجال أمام الحريات بما يتوافق مع ديننا الحنيف، فالمغرب في عهد شهد طفرة كبيرة في ترسيخ حقوق الإنسان وكذلك في مجال حرية الصحافة والإعلام وحرية الفكر والتعبير إيمانا منه بأن الحرية بمفهومها الشامل تسهم في الإبداع والابتكار وتنمية المجتمع واحترام عقول أبناء الشعب، وتدل على أنه جمع بين الأصالة والثوابت الدينية من ناحية، وبين مستجدات العصر الحديث التي لا يمكن الاستغناء عنها من ناحية أخرى. ومن الملاحظ أنه في الآونة الأخيرة أنه قام بتوسيع دائرة العلاقات المغربية الإفريقية وذلك بالزيارات التي قام بها مؤخرا لتوطيد أواصر العلاقات الإنسانية والدينية، وإحداث التنمية الاقتصادية في المغرب وفي شتى الدول الإفريقية، من خلال دعوته الصريحة إلى التكامل والتضامن الإفريقي، ومراعاة حقوق الإنسان، والعمل الدؤوب وبذل الجهد لتحقيق الاكتفاء الذاتي وعدم الاعتماد على الآخر، ولاشك أن الاستقرار الذي يتمتع به المغرب في ظل السياسة الرشيدة للملك قد جذب الدول الغربية لتوسيع رقعة استثماراتها في المغرب بصورة ملفتة للانتباه. وفي المجال الديني شهد المغرب في عهده الاهتمام الكبير بالدين والتدين وذلك من خلال تنظيمه للشأن الديني في أرجاء المغرب، وإحياء دور الدين في المجتمع، وذلك بإنشاء المجالس العلمية المحلية المنتشرة في شتى ربوع التراب المغربي، وتقريب المواطنين من العلماء باعتبار أن المعلومة الدينية الصحيحة حق لكل مواطن، تقربه من ربه، وتقيه من آفات التطرف البغيض.. ولقد أسهم تقريب المواطنين من العلماء من نشر قيم السلام الاجتماعي والتسامح والمحبة في نموذج فريد من نوعه في الوطن العربي.. ونظرًا لتجربة المغرب الرائدة في نشر ثقافة التسامح والمحبة والسلام فإن عديدا من الشعوب الأفريقية والعربية يستعينون بالغرب في تكوين الأئمة لبلادهم. ولم ينس المغرب بقيادة الملك محمد السادس –حفظه الله- أبناءه في الخارج؛ بل إنه يتواصل معهم فيما يخص الشأن الديني، وحل المشكلات التي تواجههم في المهجر، كما يتم إيفاد البعثات الرمضانية بالوعاظ والمقرئين للمساجد المغربية في الغرب لربط أبناء المغرب بربهم وبدينهم وبوطنهم... ولقد تشرفتُ بالتعاون مع الكثير من هذه البعثات المغربية في هولندا وبلجيكا والدانمارك والسويد وفرنسا أثناء ابتعاثي من رابطة الجامعات الإسلامية والأزهر الشريف داعية وواعظا للمسلمين –خصوصا في المساجد التي شيدها المغرب والمغاربة- في أوروبا لأعوام عديدة... ولمست فيهم تعلقهم بربهم وحبهم لدينهم ولوطنهم ولمَلِكِهم الشاب. إن الوسطية الدينية والتسامح والسلم الاجتماعي الذي يشهده المغرب حاليا من أهم السمات التي تميز المغرب العربي وشعبه العريق، والتي تستحق الاهتمام والنظر إليها بعين الاعتبار في شتى الدول الإسلامية؛ لنشر ثقافة الوسطية والتسامح والمحبة والسلام، الأمر الذي يرسم الصورة الصحيحة عن الإسلام داخليا وخارجيا. فتحية إجلال واحترام من القاهرة العامرة ومن مصر الأزهر.. من كنانة الله في أرضه، لجلالة الملك الشاب الموقر محمد السادس -حفظه الله-، الذي يشرف بنفسه على تنظيم الشأن الديني في المغرب وأوروبا.. تحية لهذا الرجل التي يسير بخطى ثابتة، على أثر الأجداد في تأكيده على العقيدة الأشعرية، وعلى الفقه المالكي.. تحية لهذا الرجل الذي استطاع أن يربط الجالية المغربية في أوروبا بدينهم وأوطانهم وأبطالهم.. وتحية للشعب المغربي العظيم. إن ما قالته هذه المذيعة لا يمثل حالة متفردة من حالات الجهل الإعلامي التي تفشت في القنوات الفضائية الخاصة وغيرها، وإنما -للأسف- يعكس نمطا سائدا لا يستثني منه إلا القليل النادر، والسؤال الذي يطرح نفسه: على مَن تقع المسؤولية لمعالجة هذه الخطايا الإعلامية؟ والإجابة هي أنه ينبغي على المؤسسات الإعلامية والأكاديمية الاضطلاع بدورها في إعداد هؤلاء الإعلاميين إعدادا جيدا من الناحية المهنية والأخلافية والثقافية والاجتماعية، وتفعيل مواثيق الشرف الإعلامي؛ حتى يدركوا خطورة دورهم وخطورة ما يقدمونه للجمهور، وما قد يترتب على ذلك من نتائج إيجابية تسهم في التقارب والتواصل والتعاون بين الشعوب، أو سلبية قد تعصف بعلاقة مصر بأشقائها. ثم يأتي بعد ذلك دور المؤسسات الرقابية التي يجب أن تراجع هذه القنوات وموادها الإعلامية لتفادي مثل هذه الأخطاء..
الباحث والمحاضر في الفكر الإسلامي المدير التنفيذي لرابطة الجامعات الإسلامية عضو اتحاد كُتَّاب مصر - عضو اتحاد المؤرخين العرب عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.