الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش له قصيدة يانعة مخضرة دائمًا.. عنوانها "أنا يوسف يا أبى".. يقول فى مقاطع منها أنا يوسف يا أبي... إخوتي لا يحبونني... لا يريدونني بينهم يا أبي.. يعتدون علىّ ويرمونني بالحصى والكلام يريدونني أن أموت لكى يمدحوني.. وهم أوصدوا باب بيتك دوني....وهم طردوني من الحقل.. هم سمموا عنبي يا أبي...وهم حطموا لعبي يا أبي.. فماذا فعلت أنا يا أبى ولماذا أنا؟ أنت سميتني يوسفا..وهم أوقعونى فى الجب..واتهموا الذئب.. والذئب أرحم من إخوتي...
ستدركك الدهشة حين ترى الفرحة والشماتة تتبدى فى وجوه وأصوات حولنا.. مما تفعله إسرائيل الآن فى (غزة).. بلغت بهم الخساسة.. إنهم نسوا حتى أمنهم القومى - إذا كان لديهم بالفعل شعور قومى - أين يبدأ وأين ينتهي.. وما تمثله (غزة) فى ذلك.. لأنهم فى حقيقة الأمر.. من أخطر الأخطار على أمننا القومى.. ............ ومصطلح (الأمن القومى) استبيح استباحًا قبيحًا خلال الفترة الماضية.. أحد المذيعين الذين تم إعدادهم فى (المخابر) المعملية قال إنه قرر التدخل ضد الرئيس مرسى حين تأكد له أنه خطر على (الأمن القومى)..هكذا نصا وفصا...!!! واستنادًا إلى كل معايير (الأمن القومي) التاريخية والاستراتيجية والعلمية.. بماذا نصف ما فعله الرئيس عبد الناصر فى1967م..؟ وما فعله الرئيس السادات فى كامب ديفيد 1979م..؟ وأنا هنا أدافع فقط عن (وعينا القومي) الذى درسناه فى كتب التربية القومية.. وقرأناه فى كتب د. جمال حمدان ود. حامد ربيع ود. عبدالوهاب المسيرى رحمهم الله.. ....... سيكون علينا إذن أن نعيد قراءة المشهد من بداياته الأولى ونتذكر دائمًا أن إسرائيل مجتمع استيطاني إحلالى لا يزال ينشأ ويتوسع.. والمجتمعات الاستيطانية لا تنشأ بالحق.. إنما تنشأ بالقوة.. والمعادلة التى تتبناها هي: (القوة ثم الأمر الواقع ثم ما تدعيه بعد ذلك من حقوق) ولا يتم مواجهة ذلك كله إلا بالقوة والمقاومة العنيفة.. وعادة لا يجرى إقناع المعتدين عن طريق الحقوق وإنما عن طريق (الإفشال) المادي وأن المعتدى لن يحقق كسبًا بعدوانه بل إن خسارته المادية والبشرية تفوق ما يعول عليه من كسب. وكما يقول المستشار طارق البشرى: (نحن لا نتنازع مع العدوان الإسرائيلى - الغربي حول أرض غريبة.. يطمع فيها كلانا بمعنى أننا لسنا طرفًا فى صراع بين (متنازعين) ولكننا نحن (موضوع الصراع) ذاته نحن موضوعه وأحد طرفيه فى ذات الوقت وهذا الوضع يعطينا مزية لا تكون لغيرنا قط، وهى مزية لا ينفد معينها وما من بلد غلبه المعتدون على أمره وانتهى جهاده ضدهم إلا برد الاعتداء. وقد تكسرت إمبراطوريات أمام هذا الصبر والتصميم. والصبر والمصابرة وطول النفس تأتي من أنه فى صراع الوجود وفى مجال الدفاع عن الذات يمكن للجماعة أن تغلب مرة ومرات، ولكنها مجتمعة أو أيا من قواها منفردة لا تملك أن تتنازل عن الحق فى الوجود الحاضر أو فى البقاء المستقبل والأجيال تتوالى ولا يؤثر فى حقوقهم ما انضغطت به إرادة أسلافهم)...
ويضيف.."لا مهرب من استخدام (العنف) عند مواجهة استعمار استيطانى قائم على كسب الأمر الواقع بالقوة أو يتوسل لذلك بإبادة أصحاب الحق وأصحاب الأمر الواقع القائم بالطرد أو بالقتل إذا كان هذا هكذا فإنه يتعين القول بأن للمقاومة العنيفة ضوابط،... فهى أولاً تمارس فى الأرض المحتلة عادة وليس خارجها.. وهى تمارس ضد الطرف المعتدى عسكريًا كان أو متخذًا سمتًا مدنيًا... وهى مع تنامى الصراع تتنامى وتتسع دائرتها الجغرافية... وتتصاعد وتتمدد وسائل القوة حسب خطط العدو المعتدى وحسب ما يستخدمه من أدوات العنف والتصعيد (حتمى) لمن يبغى النصر.... بما يشمل ذلك من المصابرات والتحرف للقتال والتقاط الأنفاس ولكن دون إلقاء السلاح ودون كسر إرادة المقاومة مع ملاحظة أنه لا عنف إلا فى الأرض المعتدى عليها ولا عنف إلا ضد المعتدين وهذا مما يستَقرأ من حالات المقاومة الوطنية التى عرفناها فى العالم عن التاريخ المعاصر". ...........
أيًا من فصائل المقاومة الفلسطينية لم تعلن حتى الآن تبنيها لعملية قتل المستوطنين... (الذريعة) التى استخدمتها إسرائيل، لتبرير ما تفعله من عربدة ضد حماس وغزة.. ولكن إسرائيل أصرت على تحميل حركة (حماس) مسؤولية هذه العملية ونقلت المعركة بمبادرتها إلى غزة مستغلة للظرف الإقليمي فتوجه ضربة عسكرية لهذه الحركة التى تحمل فى بطائنها أسرار التاريخ والعقيدة والأمل والمعنى والغاية.. (غزة) فعلت ما يقوله المستشار البشرى..!! ردت على العدوان بتصميم فاجأ الجميع وأحرج الجميع. على رأس الأهداف التى تسعى لها إسرائيل من ذلك أيضًا.. تعطيل اتفاق المصالحة ونزع الشرعية الدولية عن حكومة الوفاق الفلسطينية. فقامت باعتقال أكثر من ألف فلسطيني فى الضفة الغربية أغلبهم من حماس وقياداتها بمن فيهم أعضاء فى المجلس التشريعي ورؤساء بلديات.. وإتمامًا (لوجه الغدر) قامت بإعادة اعتقال (جميع أسرى حماس) الذين أطلق سراحهم فى إطار صفقة استعادة الأسير(جلعاد شاليط)..رغم أن الاتفاق ينص على عدم فعل ذلك تحديدًا.. أيضًا استهدفت عائلاتهم والبنية التحتية المدنية لحماس والمؤسسات والاجتماعية والدينية والإعلامية والثقافية والاقتصادية... مارست إسرائيل جرائم (حرب) ضد المدنيين لإرغامهم على (دفع الثمن).. !!!! محاولة من خلالها ردعهم عن تأمين ظهير اجتماعي للمقاومة، وجرى التركيز على عائلات الناشطين وكوادرهم.. فى رسالة شديدة الوضوح نصها (أن عائلاتهم ستدفع الثمن نتيجة اختيارهم طريق المقاومة). إنه (الإرهاب) فى أقذر صوره.. والمفروض أن على حماس والفصائل الأخرى(التسليم) بخرق إسرائيل اتفاق صفقة (شاليط).. وأيضًا خرق اتفاقية التهدئة التى جرى التوصل إليها فى عهد الرئيس محمد مرسى إثر العدوان على القطاع فى أواخر عام 2012. لم يشكل العدوان على غزة مفاجأةً لأحد.. فقط الأسئلة دارت حول مداه.. وعما إذا كان سيجرى على غرار (عامى 2008 و2012). ستة أيام على اندلاع العدوان الإسرائيلى فيما وصلت صواريخ حماس إلى تل أبيب ومشارف حيفا ما يعنى أن المدى زاد على 100 كيلومتر، وهو ما سيشل الحياة فى مناطق أوسع من إسرائيل، خاصة أن حماس أطالت مدى صواريخها ليصل مجموع الإسرائيليين الذين سيكونون فى مرمى صواريخها إلى نحو خمسة ملايين إسرائيلي!!..... غالبية الصواريخ التى تستخدمها حركة حماس تحديدًا بما فيها تلك الطويلة المدى قد صنعت فى القطاع. ستزداد شعبية حماس لدى الشعب الفلسطيني وتستعيد بعضًا، مما فقد منها فى (طواحين الكذب الإعلامية) ستضطر السلطة فى مصر إلى الاتصال بهم مرّة أخرى. - بعد أن نالهم من 30/6 جانبًا من تجلياته الجميلة!! - ويمكن لكل ذلك أن يسهم فى الوصول إلى اتفاقية تهدئة جديدة تضمن رفع الحصار نهائيًا عن غزة وتطبيق المصالحة مع فتح دون تدخل من إسرائيل. لم تكن هذه الحرب خيار غزة ولا حماس.. بل خيار إسرائيل و(آخرين).. ويمكن للمقاومة أن تحقق فيها إنجازات سياسية لم تخطر على بال الجميع.. أكرر الجميع! ومرة ثانية: أنا يوسف يا أبي... إخوتي لا يحبونني... لا يريدونني بينهم يا أبي.