أعجبتني تصريحات السيد البدوي رئيس حزب الوفد أثناء انتخابات الهيئة العليا الأخيرة ، والتي قال فيها أن الوفد حزب حاكم في الانتخابات البرلمانية المقبلة ، وأنا واثق من أن البدوي لم يطلق هذا التصريح جزافا أو على سبيل المنظرة ، ولكن لأن الوفد حزب يعمل بالفعل منذ عدة سنوات على بناء قاعدة جماهيرية ، ويمتلك كوادر جيدة ولها حضور شعبي في محافظات عديدة ، وتفكر بمنطق العمل والمسؤولية وليس بمنطق الشغب السياسي ، ومع الأسف تم التآمر على معظمهم في الانتخابات المزورة الأخيرة بصورة فجة ، وفي يقيني أن الانتخابات البرلمانية المقبلة ستفرز حكومة ائتلافية ، ستكون هي الحكومة الائتلافية الأولى في مصر منذ سبعين عاما على وجه التقريب ، وسيتمثل في هذه الحكومة أكثر من حزب وقوة سياسية وكتلة للمستقلين . سيكون الوفد والإخوان شركاء في الحكومة المقبلة ، هذا مؤكد ، والتيار السلفي سيكون له رموز تعبر عنه للمرة الأولى في البرلمان ، لكن حضوره سيكون رمزيا ، لأنه غير مؤهل للنزال الانتخابي ، سواء كان بالقائمة أو الفردي ، ولا يملك أدواتها وخبراتها رغم حضوره الشعبي ، وإذا نجح الناصريون في التوحد سيكون لهم حضورهم القوي في تلك الحكومة وفي البرلمان المقبل ، وقد بدأ صوت العقل يصل إلى الأحزاب والقوى الليبرالية الجديدة وبدأت الترتيب للانتخابات بطرح فكرة التحالف بين عدد من الأحزاب لخوضها بقوائم مشتركة ، هذا تطور مهم ، وإن كان التحدي الأساس عند الليبراليين الجدد ليس في مثل هذا التحالف بقدر ما هو ممثل في قدرتهم على صياغة خطاب سياسي جديد يتواصلون به مع المجتمع والشارع المصري ، بحيث يفهمهم ويفهمونه ، ويتبنون فيه مطالب حقيقية واحتياجات حقيقية للمجتمع أبعد من لغة "الخواجات" التي يتلذذون بالرطانة بها في الفضائيات والصالونات ، العمل السياسي الجماهيري يختلف عن تلك "الأوكار" ولغتها وألاعيبها وحساباتها . اليسار المصري يعاني التشرذم وسوء السمعة ، مما جعله على هامش الحياة السياسية وسيظل كذلك في الفترة الانتقالية ، وهي مأساة يسأل عنها بالأساس "حزب التجمع" الذي كانت نشأته الأساسية كقوة ائتلاف أو جبهة بين تكتلات وأحزاب وتنظيمات يسارية مختلفة ، ولكن بعض من وثبوا على قيادة الحزب مؤخرا حولوه إلى حديقة صغيرة ملحقة بالحزب الوطني الحاكم ، ووصلت الكارثة إلى حد أن يقوم أحمد عز بتزوير الانتخابات لصالح بعض مرشحي التجمع في انتخابات العار الأخيرة ، فانتهى الحال منذ سنوات إلى عودة التنظيمات اليسارية إلى ما يشبه العمل السري والفسيفسائي والجدل الإيديولوجي العقيم والمغيب عن تراب مصر وهوائها وعقلها وتاريخها ، ومن الصعب أن يشكل اليسار المصري جبهة انتخابية موحدة وقوية ، رغم أن اليسار يمتلك رموزا نضالية حاضرة بقوة في الشارع مثل أبو العز الحريري والبدري فرغلي وشخصيات أخرى وافرة النبل السياسي مثل عبد الغفار شكر ، والمؤكد أن شخصيات ورموز يسارية ستكون حاضرة في المشهد البرلماني الجديد . إذا نجحت القوى الوطنية في التوافق على قوائم موحدة في الانتخابات فإن ذلك سيحدد بشكل مبكر شكل البرلمان وتوازناته ، ويخفف الاحتقان السياسي بدرجة كبيرة ، وإذا لم يتم التوافق على تلك القائمة ، فالمؤكد أن هناك تنسيقا سيتم بين القوى السياسية والحزبية الكبرى لتفريغ دوائر بشكل محسوب ومتوازن ، والبرلمان المقبل بصيغته التعددية والثرية من المؤكد أنه سينجح في اختيار لجنة "المائة" التي تصوغ الدستور بشكل يقنع الأجيال المصرية الجديدة وأشواقها للحرية والعدالة والرفاه ودولة القانون ، والمتيقن أن تلك اللجنة ستشكل من شخصيات لها مشارب وخلفيات ثقافية وسياسية متنوعة ، والمؤكد أن عمل هذه اللجنة سيكون أحد أركانه الحوار القومي الموسع مع كل فعاليات الأمة وتياراتها قبل التوصل إلى صيغة نهائية يجتمع عليها القطاع الأوسع في المجتمع ، ثم في النهاية سيكون الشعب هو الحكم على هذه الصيغة بعد إنجازها ، إما بقبولها في الاستفتاء العام أو رفضها ، أي أننا أمام مشوار ديمقراطي معقد ومركب ، يمر من خلال أكثر من اختبار وأكثر من حوار وأكثر من جهد سياسي كبير ، فليس هناك أي معنى للقلق من انحراف بأجندة الثورة ، حيث لا يوجد عاقل يمكنه أن يغامر بمثل هذا الانحراف ، ولا معنى لأن يفزع البعض من الالتزام بالبرنامج الوطني الذي صدق عليه الشعب المصري في استفتائه الأخير ، وتبقى الدعوة لتأجيل الانتخابات أو عمل دستور الآن وليس بعد أربعة أشهر من خلال البرلمان الجديد ، محض محاولة لإهدار الوقت ، ومحاولات لإثارة الارتباك والفوضى السياسية للهرب من استحقاقات مواجهة التحدي الديمقراطي ، والخوف من مواجهة الشعب وجها لوجه في أول اختبار حر وشفاف ، ولا يوجد في أي ديمقراطية أو عدالة أن يفرض الفاشلون والكسالى رأيهم على غالبية الشعب . [email protected]