حكم مصر في المرحلة المقبلة غرم لا غنم ، ومن يتصدر المشهد سيحمل عبئا مضنيا وتركة مثقلة بالهموم من كل نوع وجهة ، شارع ثائر وشعب خرج مارده من قمقمه يحتاج سنوات لترويضه ، واقتصاد منهك للغاية ويحتاج لمعجزات لكي يستعيد عافيته خلال فترة قصيرة ، ومنظومة سياسية مشتتة ومسكونة بالشكوك والهواجس تجاه بعضها البعض ، وتحديات أمنية كبيرة ذات أبعاد متنوعة في أسبابها ، وعندما تكون الهموم بهذا القدر من الثقل والتشعب والخطر أيضا يكون من المهم والضروري أن تتشارك كل القوى الوطنية في البلد في "مشروع الإنقاذ" ومسيرة الإقلاع إلى الديمقراطية ، ويستحيل أن يقوم بهذا العبء تيار واحد مهما عظم شأنه . أيضا ، الثورة المصرية المباركة ، ثورة يناير ، هي تتويج لنضال قوى عديدة في مصر على مدى سنوات ، وتضحيات كبيرة قدمها الجميع ، كما أن حدث الثورة في ذاته كان سر نجاحه في امتزاج الجميع داخل بوتقته ، وتشابك الأيادي مع بعضها البعض أمام محاولات قمع الثورة وإطفاء جذوتها ، وبالتالي فمن المنطقي أن يكون جميع شركاء الثورة هم شركاء في بناء مصر الجديدة ، وأن يكون الجميع شركاء في رسم خريطة البلد ، خاصة الخريطة السياسية ، ولا يمكن إقصاء أي قوة شاركت في الثورة من الحق في تلك المشاركة ، أيا كانت الصيغة ، لا من الناحية الأخلاقية ولا حتى من الناحية الواقعية أيضا ، بل إن أية محاولة إقصاء أو تجاوز لشركاء الثورة تمثل خطرا على مرحلة التحول ذاتها ، خاصة عندما يدرك الجميع أنهم يتحركون الآن على رمال متحركة ، لا شيء ثابت فيها أو متجذر . أحسن الإخوان المسلمون في بداية نجاح الثورة عندما طرحوا فكرة أن يتم خوض الانتخابات البرلمانية المقبلة بقوائم موحدة للأحزاب والقوى الوطنية ، يتم التشاور حولها ، بحيث يكون ذلك ضمانة للجميع بالمشاركة ، وبأن البرلمان المقبل هو برلمان كل قوى الثورة بدون مفاجآت ، وأن الجميع حاضرون تحت قبته ، وبالتالي الجميع مشاركون في صياغة المستقبل وخاصة اختيار اللجنة الدستورية وما يليها ، ولا أدري سبب تراجع هذه الفكرة ، هل كان بتعنت من أطراف أخرى ، أم لأسباب استجدت لدى الإخوان جعلتهم يبحثون عن شركاء آخرين ، أو أن الإخوان شعروا بعدم جدوى الفكرة من الناحية العملية ، لكن المؤكد أن مزايدة الإخوان مؤخرا في النسبة التي يطمحون فيها في البرلمان المقبل كانت سلوكا سياسيا غير حكيم وضارا جدا بأجواء الثقة والاطمئنان في ظل الأجواء القلقة والمترعة بالشك والتوجس من الإسلاميين تحديدا في تلك المرحلة ، وأتمنى أن يعيد الإخوان النظر في الأمر ، وأرجو أن تعود فكرة القائمة الموحدة للانتخابات البرلمانية المقبلة . في هذا السياق يكون طرح الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح نفسه مرشحا لرئاسة الجمهورية خطوة بالغة السوء وغير حكيمة على الإطلاق ومعوقة للمشروع الديمقراطي ، لأننا في تلك اللحظة الفارقة والانتقالية لسنا في معرض البحث عن الحقوق وإنما المواءمات والتي تستدعي تضحيات مهما بلغت لحماية المشروع كله وضمان الانتقال الآمن إلى الديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات ، فرفض ترشيحه ليس اعتراضا على شخصه بطبيعة الحال ، ولكن لأن مثل هذا الأمر يزيد الأمور سوءا وقلقا لدى جميع القوى الوطنية ، لأنه يعني أن التيار الإسلامي يخطط للتكويش على كل سلطات الدولة ، رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ورئاسة البرلمان ، قد لا يكون هذا هو المستهدف أساسا ، ولكن الخريطة هكذا تبدو بعدما طرح نفسه للرئاسة ، ولا يمكن أن تلوم الآخرين إذا أساءوا الظن بها ، وبالأمس قال أبو الفتوح أنه لا يمثل تنظيم الإخوان ولكنه مؤمن بمنهجهم وأفكارهم ، أي أنه في النهاية مرشح فكرة الإخوان ، وفي المحصلة هو مرشح التيار الإسلامي أيا كانت صفته ، وهو ما يعزز مخاوف الجميع من استحواذ التيار الإسلامي على كل شيء بكتف قانوني أو غير قانوني ، ويصبح الباقون جميعا خارج الملعب ، وبالتالي تكون قد دفعت الجميع للاحتشاد ضد اللعبة بكاملها والمطالبة بوقفها أو تأجيلها إلى أجل مسمى أو حتى غير مسمى ، ومن هنا ، كانت خطوة عبد المنعم أبو الفتوح في المعيار السياسي لغما خطيرا وسوء تقدير فادح ، يضر بالعملية السياسية بالكامل ، وأتمنى منه بكل نبله وإخلاصه أن يعيد النظر سريعا فيها ويعلن انسحابه مبكرا . [email protected]