عندما بدأت ثورات العرب تونس ثم مصر قبل شهور قليلة، بدا بوضوح في رد الفعل الاميركي الشعبي، ان ثمة «غيرة» اميركية من مقدرة الشعوب العربية للتصدي لحكامها المستبدين الذين يملكون من أساليب القهر والقمع ما لم تعرفه اميركا في اي مرحلة من تاريخها. وقتها اظهرت ردود الفعل الاميركية وجود حاجة ماسة لدى الشعب الاميركي لتحدي نظام الحكم القديم الذي يرسخ على إرادته من إدارة جمهورية الى إدارة ديموقراطية. بدا بوضوح ان الشعب الاميركي العمال ومحدودي الدخل والفقراء الذين يمثلون، شأن اي شعب آخر في العالم، الاغلبية الاكبر من السكان يريد ان يؤكد ذاته في مواجهة هذا النظام الذي يفترض العالم الخارجي انه الاكثر ديموقراطية، وان لم يجرؤ احد على ان يعتبره الاكثر مساواة. ان الشعب الاميركي يريد ان يسمع صوته للدنيا على النحو الذي فعله المصريون في ميدان التحرير. واعتبر العمال الاميركيون الذين تزامنت تظاهراتهم في ولاية ويسكونسين مع مليونيات ميدان التحرير في القاهرة انهم يستمدون إلهاما من هذه التظاهرات المصرية. وبدا الامر لنا على هذا الجانب من العالم انه لا يصدق او على الأقل لا يكاد يصدق. انما بقيت الحقيقة التي تؤكد ان الشعب الاميركي يتوق لأن يخرج في الميادين «يمشي كما المصريين» معبراً عن احتجاجه واعتراضه على الاوضاع السائدة في بلاده. الاوضاع التي تجعل رجل الشارع الاميركي مغبونا ومديونا ومنكسرا ومستغلا، شأنه شأن الذين يثورون في الشرق الاوسط العربي وينالون تأييد النظام الاميركي الحاكم. هذه هي الخلفية الحقيقية التي عليها تم تنفيذ خطة اغتيال اسامة بن لادن بنجاح في مدينة أبوت أباد الباكستانية، والتي ادت اذاعة خبرها ببيان قرأه الرئيس الاميركي باراك اوباما بنفسه على الشعب الاميركي. اما لماذا نعتبر ان هذه هي الخلفية الاميركية الحقيقية لاغتيال بن لادن، فإن لهذا أسباباً عديدة: اولها ان من المؤكد ان القوات الخاصة الاميركية سبق ان نفذت خلال السنوات العشر الماضية عدة عمليات اغتيال ضد بن لادن، او عمليات كانت ترمي الى اعتقاله ونقله الى الولاياتالمتحدة لمحاكمته، ولكن هذه العمليات وتلك فشلت وطوتها سياسة السرية التي احاطت بها الى النهاية. وثانيها ان المعلومات الاميركية نفسها سبق ان كشفت ان الولاياتالمتحدة عرفت منذ عام 2008 محل اقامة بن لادن في مدينة ابوت اباد الباكستانية، ولكنها لم تقدم على محاولة اغتياله طوال ثلاث سنوات، كان يمكنها خلالها ان تنفذ الخطة نفسها التي نفذت قبل ايام. ثالثا انه كان بإمكان القوات الخاصة الباكستانية ان تنفذ خطة اغتيال زعيم القاعدة بمجرد ان كشفت مسكنه الحقيقي في هذه المدينةالباكستانية، وأغلب الظن ان الولاياتالمتحدة منعت الباكستانيين من تنفيذ مثل هذه الخطة لتبقى امتيازاً لها وحدها. وبالمقابل فإن الرئيس الاميركي اعلن ان تعاون الولاياتالمتحدة مع باكستان في مكافحة الارهاب قد ساعد اميركا على الوصول الى بن لادن والى المجمع السكني الذي كان يختبئ فيه. ويمكن ان تكون هناك اسباب رابعة وخامسة وسادسة لحقيقة ان الخلفية الحقيقية لعملية اغتيال بن لادن والتوقيت الذي اختارته واشنطن الرسمية لها تتعلق بمد الشعب الاميركي بما يعوضه عن الشعور بالغيرة ازاء خروج التظاهرات الثورية العربية بكل الزخم الذي خرجت به وقهرت نهائياً اثنين من اعتى نظم الحكم في المنطقة العربية. انما لا بد من التأكيد في هذا السياق ان قرار واشنطن الرسمية واشنطن الرئاسة والمخابرات - بأن تكون غاية الخطة هي اغتيال بن لادن وليس اسره ونقله الى الولاياتالمتحدة، إنما يرجع الى رغبتها الأكيدة في ان تعفي الاميركيين من تعقيدات تنشأ عن اقوال يدلي بها بن لادن اثناء محاكمته، ويكون من شأن هذه الأقوال ان تكشف او تثير الشكوك حول علاقات المخابرات الاميركية بتنظيم القاعدة وبن لادن نفسه. وهنا لا يمكن استبعاد احتمال ان تكون المخابرات الاميركية هي التي قررت ان يكون الهدف المباشر هو اغتيال بن لادن.. أي إسكاته الى الأبد وإرساله الى قبره ومعه كل ما يعرف من اسرار العلاقات الاميركية مع القاعدة. وهنا ايضا لا يمكن استبعاد ان تكون السعودية قد طلبت ان يتم اغتيال بن لادن حين يبدو ذلك ممكناً وليس أسره او محاكمته. فالسعودية احرص على سمعة علاقاتها بالمخابرات الاميركية من ناحية وبتنظيم القاعدة من ناحية اخرى، وكذلك تنظيمات الجهاديين الدينيين والسلفيين الأخرى على إطلاقها. ولا شك ان القاعدة الاساسية التي تراعيها واشنطن الرسمية بالنسبة للعلاقات الاميركية السعودية هي ان السعودية ابقى، وينبغي ان تكون ابقى، من اي تنظيم «ارهابي» محلي او إقليمي او عالمي. وبتعبير اوضح: يذهب بن لادن وتبقى السعودية. ولهذا فإن الحكومة الاميركية حريصة كل الحرص على ان لا تتفوه بكلمة عن انتماء بن لادن الاصلي للسعودية بل للطبقة الحاكمة السعودية. ولا تحب الاجهزة الاميركية ان تأتي من بعيد او من قريب على سيرة المنشأ الاميركي لتنظيم القاعدة برئاسة بن لادن منذ ايام الاحتلال السوفياتي لأفغانستان. وذلك على الرغم من ان هذا لم يعد سراً او هو سر يعرفه الجميع. ونعود الى الخلفية الحقيقية لاغتيال بن لادن وهي المشاعر المضغوطة لدى الشعب الاميركي في مواجهة نظامه الحاكم. وقد رأينا بأنفسنا كيف ان إذاعة نبأ نجاح عملية اغتيال بن لادن قد أطلق مشاعر الاميركيين من عقالها. لقد بدت التظاهرات الليلية امام البيت الابيض وفي مكان مأساة برجي التجارة العالمية وكأنها جزء من تظاهرات مدينة العزيزية في تونس او تظاهرات ميدان التحرير في القاهرة. بالأحرى بدا واضحاً ان الشعب الاميركي وجد في اغتيال زعيم القاعدة فرصة لا يمكن تفويتها للتعبير عن مشاعر شعبية غامرة. هاهي اميركا تنجح فيما فشلت فيه لعقود طويلة. هاهو الشعب الاميركي يجد الفرصة التي لم تتح له من قبل ليؤكد انه يستطيع ان يتظاهر عفوياً وأن يعبر عن مشاعره... حتى وإن لم يستطع في مثل هذه المناسبة ان يعبر عن ثورة او انتفاضة او حتى مجرد سخط. نجح باراك اوباما في ان يتيح للأميركيين ما لم يتحه غيره من الرؤساء الاميركيين الذين سبقوه. وهو أن يخرجوا في تظاهرة صاخبة تعلن ولاءها للولايات المتحدة الاميركية. نجح في أن يتيح للأميركيين ما هو بديل عن الثورة. وسيؤدي هذا بالتأكيد الى تأجيل هذه الرغبة العارمة الغيورة في ثورة حقيقية، ثورة على غرار الثورة المصرية او التونسية. لكن الشيء الذي لم يستطع الرئيس الاميركي ان يعد به الاميركيين هو ان تنتهي حرب اميركا في افغانستان (وباكستان). انه لم يستطع ان يصور اغتيال بن لادن كأنه انتصار استراتيجي يسمح للقوات الاميركية في افغانستان (التي زادت الى ثلاثة امثال ما كانت عليه قبل ان يتولى الرئاسة في عام 2009) بأن تعود الى بلادها. ليست هذه احدى النتائج التي يمكن ان يجرؤ مسؤول اميركي على الزعم بها، حتى ولا الرئيس الاميركي نفسه. بل ان الرئيس اوباما لم يستطع ان يعد الشعب الاميركي، بعد التخلص من اخطر عدو لأميركا في العالم، بأن يكف عن التوسع في القوة العسكرية الاميركية المنتشرة في انحاء العالم. فالحقيقة الساطعة هي انه لم يكن لبن لادن دور في حرب اميركا في افغانستان او العراق او ليبيا، وهي الحروب الخارجية الثلاث التي تتدخل الولاياتالمتحدة فيها على حساب الشعب الاميركي أرواحاً وأموالاً. ويحق لنا ان نتساءل ما دام اوباما قد اهتم الى اقصى حد بتفاصيل التفاصيل في خطة اغتيال بن لادن وكيفية الاعلان عن نجاحها هل تعمد الرئيس الاميركي ان يكون تنفيذ الخطة والاعلان عنها في اليوم نفسه الذي احتفلت فيه اسرائيل بذكرى المحرقة (الهولوكوست) التي ارتكبها الالمان النازيون ضد اليهود إبان الحرب العالمية الثانية؟ ام ان الصدفة وحدها جعلت المناسبتين تأتيان في يوم واحد؟ ليس هذا كما قد يبدو من الوهلة الاولى سؤالاً عربياً بحتاً، بل الاحرى ان يكون سؤالاً اميركياً لأنه يرتبط اكثر ما يرتبط بالسؤال التلقائي الذي اثارته عملية اغتيال بن لادن بعد ثلاثة اعوام من معرفة المخابرات الاميركية بالموقع الذي كان يختبئ فيه زعيم القاعدة، ونعني السؤال عما اذا كان اوباما قد قصد بهذا التوقيت إنعاش الفرص لإعادة انتخابه لفترة رئاسة ثانية؟ لقد ردد المتظاهرون امام البيت الابيض يوم الاثنين الماضي شعار: «اربع سنوات اخرى». ولكن هل يظل هذا الشعار مسموعاً في آذان الاميركيين حتى يوم الانتخابات الرئاسية في يوم الثلاثاء التالي لأول يوم اثنين من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2013؟ اغلب الظن ان الشهور العشرين من الآن حتى موعد انتخابات الرئاسة الاميركية ستحفل بأحداث اميركية وعالمية لا يمكن حصرها من الآن وستكون لهذه الأحداث تأثيراتها على نتائج الانتخابات. هذا مع افتراض ان اوباما سيجتاز داخل حزبه الديموقراطي عقبة الانتخابات الاولية التي يختار فيها كل حزب مرشحه. ولعل الاهم وسط كل هذه الاحداث هو تاثير الازمة الاقتصادية التي لا تزال تعتصر حياة الاميركيين والتي يبذل الاعلام الاميركي اقصى ما بوسعه من جهد لتصويرها على انها تتزحزح ببطء شديد. لكن الأهم اننا هنا لا بد ان نفكر فيما سيكون من امر الثورات العربية التي يمكن ان تستمر في إلهام الشعب الاميركي طموحه لأن يتحدى النظام الحاكم. ستكون معركة انتخابات الرئاسة الاميركية القادمة اخطر معركة يخوضها الشعب الاميركي من موقع يدرك فيه ان اميركا قد ضعفت الى حد يجعل من قوتها المعروفة نظرياً السبب الاول لضعفها. والأرجح ان اميركا ستكون وقتها كما هي الآن متورطة في حروبها الراهنة الثلاث. والأرجح ايضا انها ستكون كما هي الآن تحت تأثير ازمتها الاقتصادية الكبرى. والأرجح ثالثا انها ستكون كما هي الآن متورطة في «الحرب العالمية على الإرهاب» التي اعلنتها بنفسها قبل اكثر من عشر سنوات وربما تكون قد حققت بعض النتائج الجزئية، انما غير الحاسمة، فيها. ترى كيف سيكون العالم بعد عشرين شهراً من الآن؟ هل سيكون في حالة مواجهة مع اميركا؟ ام انه سيكون في حالة رضوخ جزئي لإرادتها؟ أم أن رحلة الغروب عن دور الدولة الأعظم ستكون قد بدأت؟ اياً كان الحال عندئذ فإن ذكرى اغتيال بن لادن لن تكون باقية في الأذهان. وستكون باقية في الأذهان حقيقة ان الثورات العربية غيرت المنطقة والإقليم والعالم، وليس الإرهاب في أي من درجاته أو أشكاله. وستكون باقية في الأذهان ان اميركا مارست قوتها في العالم بطرق خاطئة ولأهداف غير قابلة للتحقق حتى وصلت الى الخط الذي فيه اصبح ضعفها في قوتها. نقلا عن السفير