تشكل دراسات الدكتور الطاهر سعود الخبير الجزائري في الحركات الإسلامية بعدًا هامًّا لدراسة الحركات الإسلامية في الجزائر. ومؤخرًا صدرت له دراسة عن الحركة الإسلامية الجزائرية : إرهاصات النشأة والتشكل وذلك ضمن سلسلة مراصد التي تصدرها وحدة الدراسات المستقبلية في مكتبة الإسكندرية. تكشف الدراسة عن جذور الحالة الجزائرية، فالطاهر سعود يرى أن الدولة الجزائرية وجدت نفسها عشية الاستقلال بعد رحيل الإطارات الفرنسية التي كانت تضطلع بتسيير شؤون الإدارة والتعليم والاقتصاد أمام مجموعة من الاختيارات الصعبة؛ حيث جندت المثقفين باللغة الفرنسية لتسيير الإدارة والاقتصاد، واستخدمت المثقفين بالعربية لأغراض التوجيه الثقافي والأيديولوجي، في التعليم وفي مؤسسة الحزب وفي الإعلام. وكان هذا الوضع المفروض بداية لمرحلة صراع حضاري بدأ ينمو بين الثقافة الوطنية والثقافة الأجنبية التي رغم رحيل أصحابها وجدت منافذ أوسع للتمدد والانتشار. بل إن ما لم يتح للثقافة واللغة الفرنسيتين من الانتشار إبان فترة الاستعمار الفرنسي أتيح لهما بعد الاستقلال وفي سنوات قليلة بشكل ملفت للانتباه، عن طريق الجهد التكويني الضخم الذي اضطلعت به الدولة الجزائرية نفسها. ولأن التعريب طرح ليشمل بالتدريج مختلف مجالات الحياة الاجتماعية، فقد لاقي بعض النجاحات في مجالات الحياة الاجتماعية، فقد لاقي بعض النجاحات في مجال القضاء والتعليم بمرحلتيه الابتدائية والثانوية؛ لأنه كان الفضاء الذي التحقت به النخب المعربة منذ البدايات الأولى للاستقلال، ثم لقي بعض النجاح المحدود في بعض فروع التعليم الجامعي لاحقًا، وبخاصة في الفروع الأدبية والإنسانية. إلا أن توسع هذا التعريب في مجالات الإدارة والاقتصاد والصناعة..لم يلق النجاح المطلوب لعديد من الأسباب لعل أهمها ما لاقاه من مقاومة عنيفة من لدن العناصر المفرنسة التي تغلغلت في صفوف هذه القطاعات الحساسة في مرحلة متقدمة وأصبحت عنصر كبح وتعطيل لكل تقدم يمكن أن يطال هذه المجالات. وقد تعمق نفوذ هذه الفئة لاحقًا، حيث تحولت إلى أكبر جدار يتصدى لعملية التعريب لاعتبارات اجتماعية وثقافية وأيديولوجية رغم القرارات الصادرة من أعلى هرم الدولة. إن قبول التعريب والتسليم به معناه برأي هذه النخبة التخلي عن الامتيازات والحظوة الاجتماعية التي أهلها للوصول إليها انفتاحها على اللغة الفرنسية، لذلك سوف تنظر لكل توسع في استخدام اللغة العربية على أنه تهديد لامتيازاتها ونفوذها ومكانتها الاجتماعية. في واقع بهذه المواصفات، انطلقت عملية التعريب بدءًا من نهاية الستينيات إلى نهاية السبعينيات متسارعة حينًا ومتراجعة حينًا آخر، تبعًا لتوازن واختلال ميزان القوى داخل النظام الجزائري لصالح هذا الطرف أو ذاك. وبدلاً من أن تقرب هذه المرحلة بين النخبتين وتمزج بينهما في نخبة جديدة عمقت بينهما الانشقاق الثقافي. لقد أثرت عملية التعريب بكيفيات عديدة لتتحول في مرحلة لاحقة إلى أرضية هامة من أرضيات التعبئة للحركة الإسلامية الناشئة. وإذا كنا نسلم مع البعض أن عملية التعريب ساعدت على تغذية الحركة الإسلامية أكثر مما ساعدت على ولاتها، حيث إن العلاقة بين التعريب والإسلامية لم تكن علاقة صريحة كليا، فذلك لأن عناصر النخبة الإسلامية الأولى باشرت العمل الإسلامي الحركي كانت في غالبيتها من المفرنسين، أو ذوي التكوين اللغوي المزدوج، بل حتى الثلاثي (عربي، فرنسي، إنجليزي) ولم تلتحق بها أفواج المعربين إلا في مرحلة لاحقة عندما توسعت عملية التعريب، وبدأت سياسة ديمقراطية التعليم تؤتي نتائجها الأولى بإتاحتها للشباب من أبناء الفئات الشعبية والوسطى والريفية الالتحاق بالتعليم بكل مراحله وخاصة بالتعليم بعد أن كاد أن يكون حكرًا في وقت سابق على الشرائح البرجوازية. إن نضالية العناصر المعربة ضد الفرنسية هي في الأصل مشكلة مترتبة على سوق العمل وتوظيف أكثر مما هي مسألة ذات طابع أيديولوجي مثلما يحرص على تأكيده عدد من الباحثين، إلا أنها ستتحول إلى موضوع يخضع للاستخدام والتوظيف الأيديولوجي، وهنا ستدخل الحركة الإسلامية على الخط للاستثمار في المجال. وإزاء هذا الموضوع نقرأ العديد من التفسيرات؛ ففرنسوا بورغا مثلاً يري أن الطلبة الين كانوا يتابعون دراساتهم في الكليات الناطقة بالعربية ثم وجدوا أنفسهم محرومين من فرص العمل التي تتناسب مع تكوينهم العلمي سوف ينضمون للمطالبة بإعادة تقييم الأصل العربي الإسلامي، لكنهم لم يتخذوا هذا الموقف، برأيه، إلا لأنه يتوافق مع مصالحهم المهنية المباشرة، بمعنى أن هذا التأييد ليس سلوكًا منطلقه القناعة الأيديولوجية بقدر ما هو منحى براغماتي تبرره دوافع المصلحة. أما جمال العبيدي فيقدم تفسيرًا أقرب إلى المناولة السيكولوجية؛ حيث يرى أن المثقفين المعربين وتحت ضغط إبعادهم من مجال النشاط الاقتصادي سيلتحقون بالميدان الأيديولوجي ليستثمروا فيه، فالتمايزات التي يشعر هؤلاء بأنهم ضحاياها تظهر لهم في البدء أنها تمايزات ثقافية، وينزعون تبعًا لذلك لنوع من التأويل الأيديو- ثقافي للعالم، وإلى البحث عن مصدر هذه التناقضات في الصراعات الحضارية؛ حيث يصبح علاجها برأيهم مشروطًا يالتحصن الثقافي والعودة إلى الجذور والقيم الأصيلة، وهو ما يدفعهم أخيرًا إلى أحضان الحركات الاجتماعية الإسلامية. وفي حين يسلك هؤلاء الباحثون هذا المنحى التفسيري، نجد باحثًا آخر هو مايكل ويليس يفسر انجذاب هذه الفئات انجذاب هذه الفئات نحو الحساسية الإسلامية بإرجاعه إلى متغير الأصل الاجتماعي. حيث يؤكد في هذا الصدد بأن هناك فئتين اثنتين كانتا أكثر قابلية للتعاطف مع الأنشطة والأفكار الإسلامية وانجذابًا لها، أولى هذه الفئات تتشكل من الطلاب المعربين المتحدرين من العائلات الفقيرة النازحة من الريف إلى المدن الكبرى، وهذه الفئة كعادة أصيلي الريف تعد أكثر محافظة من الناحية الدينية، لذلك يجد المنتمون إليها قابلية أكبر للانجذاب نحو تأويل ديني لأوضاعهم الاجتماعية، وبالتالي الاقتراب أكثر من الحركات الاجتماعية الإسلامية. أما الفئة الثانية فتنتمي إلى طبقات مدينية ميسورة وتتمتع بخلفية ثقافية أفضل، وقد اختار بعض الشباب المنحدرين منها دراسة اللغة العربية والآداب في الجامعة، وبالتالي أصبحوا هم الآخرين عرضة للبطالة بعد تخرجهم. لكن هذه الفئة بتدربها الفكري وإدراكها السياسي (تبعًا لخلفيتها الاجتماعية)وشعورها بالإحباط تصبح أكثر قابلية للتجند وراء الأفكار الإسلامية على أساس أن العودة لنوع من النظام الإسلامي-وهو ما تسعى إليه الحركة الإسلامية-سيصب في مصلحتها التي ضيق عليها نفوذ النخب العلمانية والنخب المفرنسة