يبدو أن حمدين صباحي وحملته الانتخابية تتصرف وفق منطق إثبات الوجود فقط ، والصيت ولا الغنى ، وليس العمل العلمي والجاد على انتزاع انتصار حقيقي في معركة انتخابية ، مهما كان صعبا أو بعيد المنال في تصور كثيرين ، لأن أداء حمدين حتى الآن لا يشير إلى أنه يتأسس على وعي بالخريطة التصويتية التي يتعامل معها ولا بطبيعة الانتخابات الجديدة والاستقطابات الحادة فيها ، ويهمني في هذا المقال تنبيه حمدين وحملته إلى أن الفضاء الذي يتمدد فيه بالأساس هو الفضاء الشعبي وليس الفضاء النخبوي ، فالنخبة في النهاية ليست كتلة تصويتية بقدر ما هي كتلة حرجة للحراك الثوري في الشارع والميدان ، والمرشح الرئاسي يهمه بالمقام الأول الكتل التصويتية ، وهذه كتل تحتاج إلى لغة وأداء يختلف عن اللغة والأداء الذي يمكن توجيهه إلى النخبة ، وبشكل عام فإن النخبة ليست في انتظار شروح حمدين وضماناته وخطبه العصماء من أجل أن تعطيه أصواتها ، فهو ينفخ في هواء هنا ، لأن القطاع النخبوي الذي قرر التصويت لحمدين والحشد له ينطلق من منطلقات أقرب إلى فكرة عصر الليمون ، فهو قد لا يكون مقتنعا به بشكل كامل ، ولكنه يراه "بديل الضرورة" من مرشح المؤسسة العسكرية والنظام القديم ، فلماذا تبذل جهدك في هذه المنطقة وهي لن تضيف لك شيئا ، وفر جهدك لمساحة أخرى ، أما القسم الآخر من النخبة الذي قرر مقاطعة الانتخابات برمتها فلو استهلك حمدين كامل طاقته ووقته حتى لحظة التصويت معهم فلن يغير واحد في المائة منهم موقفه إلا بصعوبة ، باختصار ، حمدين في حاجة إلى التركيز على خطاب يفهمه رجل الشارع العادي والفلاحين والعمال وأصحاب المهن الحرة ومن هم على باب الله كما يقول العامة ، حمدين لا بد من أن يتجاوز التنظير النخبوي لرفض قانون التظاهر أو هيكلة جهاز الشرطة بلغة تلبس البدلة والكرافتة إلى تبسيط المسألة عند العوام بفكرة كرامة المواطن العادي في أقسام الشرطة وفي المرور وفي إدارات الدولة وكيف أن "المواطن" هو السيد وليس هو المسود ، وأن هذه الأجهزة والإدارات هو الذي يدفع لها رواتبها وهو الذي من حقه تعيينها وعزلها ، وكيف أن عمال المصانع والفلاحين وأصحاب الأراضي المغتصبة والمباني التي يتم إزالتها لحساب الحيتان من حقهم أن يتظاهروا ويعلنوا غضبهم ويرغموا المسؤول على تغيير موقفه وحماية حقوقهم ، وأنهم لا ينتظرون إذن المسؤول لهم بالغضب أو الاحتجاج ، لأن هذا منطق المهرجين ، حمدين يدرك أن رجال الأعمال ولوبي الفساد منحاز بالكامل إلى منافسه ، ولا معنى لإضاعة الوقت والجهد لمحاولة استرضائهم ، أو الوقوف في المنطقة الوسط بينهم وبين ملايين البسطاء ، وبالتالي عليه أن ينحاز بشكل حاسم وبلغة صارمة وأفكار صريحة للفقراء والبسطاء والكادحين ويقدم لهم رؤى عملية لانتزاع حقوقهم من لصوص المال العام ومن الفاسدين ، وأن من أثروا بالملايين من دم هذا الشعب لا بد أن ينتزع من لحمهم ودمهم حقوق هذا الشعب ومسألة الحد الأدنى والأعلى للأجور لا بد أن تكون واضحة ، لا مكان لمنطقة الوسط في هذا الصراع الانتخابي إذا كنت جادا في العمل على انتزاع أصوات الملايين ، حدد كتلتك التصويتية التي تراهن عليها وارمي ثقلك كله فيها . على جانب آخر لم يكن حمدين موفقا أبدا وهو يحاول أن "يزايد" على السيسي في مسألة الموقف من جماعة الإخوان ، وتصريحه الفج بأن الإخوان لا وجود لهم في فترة حكمه إذا فاز هو تصريح انتحاري غبي بالمقاييس الانتخابية ، وحمدين يدرك أن الإخوان يملكون كتلة تصويتية ثابتة تدور حول ستة ملايين صوت انتخابي ، وهي الكتلة التي انحازت لمرسي في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة السابقة ، وقطعا حاليا يضاف إليهم أصوات سلفية وإسلامية أخرى تنحاز إلى "تحالف الشرعية" الذي يقود المعارضة حاليا ، وهي كتلة لا تقل عن ثلاثة إلى أربعة ملايين صوت انتخابي ، بمجموع أسرهم وعوائلهم وأصدقائهم ، أي أن هناك كتلة تصويتية تقدر بحوالي عشرة ملايين صوت انتخابي ، يدير لها حمدين ظهره لمجرد العنترية الخطابية والمزايدة على كلام السيسي الذي سبقه بيوم ، وأنا على يقين من أن السيسي سيكون في رأس أولوياته إذا نجح أن يبحث عن تصالح بشكل ما مع الإخوان وأنصارهم ، وسجلوا هذا الكلام علي من الآن ، لأنه يعرف أنه لن يمضي في بناء دولة جديدة بدون شراكة تلك الكتلة الإسلامية أو تحييدها أبدا ، وسيكون حمدين وقتها هو الذي شرب المقلب ، ومن الطبيعي الآن أن يقول السيسي ما قاله عن الإخوان وأنه لا مكان لهم في فترة حكمه ، لأنه خسرهم ككتلة انتخابية بشكل بديهي ، ولو عمل لهم عجين الفلاحة الآن فلن يصوتوا له ، وبالتالي كان رهانه على الطرف الآخر ، الكتلة التي تدعمه بقوة لأنه أبعد الإخوان ، هذه كتلته التصويتية التي يبحث عنها ويغازلها ، وليس مهموما بكتلة الإخوان فهي ضائعة منه بداهة ولا جدوى من مغازلتها انتخابيا الآن ، ولكن ، بالنسبة لصباحي ، لماذا يقرر خسارة هذه الكتلة مبكرا ، هل هناك مرشح عاقل يقرر أن ينزل المباراة وقد خسر نصف نتيجتها على الأقل قبل ضربة البداية ، أي عبث هذا ، أنت تقرر من تلقاء نفسك أن تخسر كتلة الإسلاميين التي تقدر بعشرة ملايين صوت انتخابي حاليا ، والمؤكد أنك تخسر كتلة النظام القديم وأنصار العسكر لأنهم يحشدون بالكامل لصالح السيسي ، فما الذي تبقى لك من رهان انتخابي يا صديقي ، هذا تهريج أو "تهجيص" قد يثبت للمتشككين أنك نزلت الانتخابات "منظرة" وليس كمرشح جاد يلعب بأوراق انتخابية بشكل احترافي بحثا عن النصر . بطبيعة الحال ، ليس مطلوبا من صباحي في ظل هذه الأجواء أن يدافع عن جماعة الإخوان أو يعلن عن شراكة سياسية معهم إذا فاز ، ولكن يمكنه أن يعالج المسألة بلغة سياسية أقل خشونة وأقل استفزازا ، وبلغة تجعل الباب مواربا لحضور الأمل السياسي لهذه الكتلة الانتخابية الضخمة إذا فاز ، ولو رجع لإعلان 3 يوليو نفسه الذي دشن المرحلة الحالية لكفاه ، من دعوة للمصالحة الوطنية على أرضية الالتزام بالقانون والدستور وأنه لا إقصاء لأي قوة سياسية ، كما أن على الجميع أن يعيد هيكلة وجوده بشكل قانوني ودستوري ، ونحو ذلك من خطاب عقلاني راشد ومقنع ، فهذا وحده هو ما يتيح له القدرة على تحييد قطاع مهم من هذه الكتلة ، لأنها وإن كانت تميل للمقاطعة إلا أن اللغة الناضجة والذكية للمرشح يمكن أن تقنع ملايين منهم بالتصويت فعلا لصالحه تصويتا عقابيا للسيسي على الأقل . الظهور الأول والأكبر للسيسي بحواره مع إبراهيم ولميس يمكن أن يخدم صباحي كثيرا ، لأنه ظهور أربك كثيرا من أنصاره ، وعزز مخاوف الكثيرين من معارضيه ، ولم يقنع أحدا بأنه أمام مرشح الأمل لوطن أفضل ، وعلى صباحي أن يستفيد من أخطاء السيسي لكسب المزيد من الكتل التصويتية ، وعليه تحاشي أن يسير على خطاه في مزايدات سياسية ، لأن حسابات السيسي ورهاناته وكتله الانتخابية تختلف تماما عن حسابات صباحي ورهاناته وكتله الانتخابية الممكنة .