هل يمكن لأمة أن يكون لها موطأ قدم بين مختلف الحضارات الإنسانية دون أن يكون لديها وعى كامل بتراثها ، إن الحادث لتراثنا هو تغييب كامل لتراث العلوم التطبيقية فى مواجهة العلوم الإنسانية. منطلقه هو عدم إدراك للدور الحقيقى لهذه العلوم فى تقدم البشرية , و عدم توافر باحثين عليه و مؤسسات ترعاهم. لكن يبرز هنا سؤال حول جدوى إحياء التراث العلمى العربى؟ إن الجدوى من إحياؤه تتمثل فى :- - إثبات الدور العربى فى تقدم الحضارة الإنسانية و أن الدين الإسلامى فى صورته الصحيحة لم يكن عائقاً أمام التقدم العلمى. - بث روح حب العلم فى نفوس الأطفال من خلال التربية المتحفية و مقاومة الإنهزام النفسى أمام التقدم التقنى القادم سواء من الغرب أو الشرق. - إعادة توظيف تقنيات هذا التراث بصورة ملائمة لعصرنا , و أقرب مثال لذلك هو توظيف الأعشاب الطبية التى إستخدمها الأطباء العرب بصورة ناجحة فى علاج العديد من الأمراض. * هناك العديد من الوسائل لتحقيق ذلك , منها إقامة مراكز و معاهد بحثية متخصصة فى هذا المجال , و لدينا فى هذا السياق ثلاثة مؤسسات , أولها معهد التراث العلمى العربى فى جامعة حلب , يعد هذا المعهد أنجح هذه المؤسسات , فهو معهد دراسات عليا يستقبل باحثين من مختلف التخصصات ليدرسوا كلُ فى تخصصه سواء الميكانيكا أو الطب أو الهيدرولوچيا أو الزراعة أصول هذه العلوم و تطورها فى التراث العربى , و المعهد لديه مكتبة و متحف و أنشطة مؤتمرات و ندوات دولية. رغم نجاح المعهد النسبى فى إثارة الإهتمام بالتراث العلمى , إلا أنه مؤسسة مكبلة بقيود تبعيته لجامعة حلب و ميزانيتها , لذا فإن أولى الخطوات التى يجب أخذها بعين الإعتبار إن أردنا إطلاق هذا المعهد , هو تحويله لمؤسسة تابعة للمنظمة العربية للتربية و الثقافة و العلوم , و إعتباره معهداً عربياً إقليمياً للعرب , خاصة أن المعهد بتجربته الممتدة من العام 1976 إلى الآن قد كفلت له كوادر فى كافة التخصصات. و إكتسب إحتراماً دولياً سواء من اليونسكو أو من الجمعية الدولية لتاريخ العلوم. أما المؤسسة الثانية فهى مركز إحياء التراث العلمى فى جامعة بغداد , الذى أسس العام 1977 , هذا المركز على الرغم من نشاطه إلى العام 1990 الذى تميز بالحيوية و التدفق ، إلا أنه أصيب بنكسة و تحول إلى مجرد مركز محلى منذ العام 1990 , و للمركز مطبوعات نخشى أن يكون جلها فقد خلال الحرب الأخيرة , و التى صاحبها تدمير العديد من المؤسسات العراقية , و نظرة على مؤتمرات و أنشطة المركز توحى لنا بمدى جدية القائمين عليه و منها , ندوة تصنيف العلوم عند العرب , سلسلة من الندوات عن الأعشاب و النباتات الطبية , ندوة عن الصناعة فى التراث. و للمعهد إهتمام خاص بدورات التعليم المستمر , منها دورة أقيمت للمعالجات البيئية لتصميم المبانى عند العرب , و أخرى عن الفيزياء عند العرب. بالرغم من النشاط السورى العراقى فى هذا المجال إلا أن مصر لم يلقى التراث العلمى إهتمام كاف بها, على الرغم من أن أولى محولات الإهتمام بهذا التراث بدأت فى مصر على يد العديد من أساتذة جامعة القاهرة , خاصة فى كليات الهندسة و الطب و العلوم , كلنا يذكر رواد مصريين فى هذا المجال منهم دكتور عبدالحليم منتصر , و أبوشادى الروبى , و شوقى جلال , و أحمد فؤاد باشا , و عند تأسيس مركز إحياء التراث العلمى فى جامعة القاهرة جاء نشاطه محدوداً نادراً , لأسباب مازالت غير معلومة. أما الوسيلة الأخرى لإثارة الإهتمام , فهى إقرار مادة تاريخ العلوم كجزء من دراسة التاريخ فى صورته المتكاملة فى المدارس العربية , فمازلنا إلى الآن نعتبر أن تاريخنا هو التاريخ السياسى فنختزل به حضارتنا و ما بها من تقدم فى صور الصراع السياسى العربى أو فى فترات الحروب , و يتحول التحدى التاريخى فى نفوس أطفالنا و بالتالى فى نفوسنا نحن أيضاً إلى تحدى سياسى فقط فى وقت نحن نجابه فيه بتحديات تقنية رهيبة متسارعة الخطوات , علينا أن نؤهل أطفالنا لها ، مؤكدين لهم أننا جزء من تاريخ هذا التطور. و لعل الشق الهام فى هذا المجال هو الشق التربوى الذى يتم من خلال ممارسة الأطفال للتجارب العلمية التى أجراها القدماء ليتوصلوا إلى مختلف المعارف. أحدث تجربة عربية فى هذا المجال هى تجربة مكتبة الإسكندرية , التى أقامت مركزاً علمياً متكاملاً , يضم قبة سماوية تعرض أفلام علمية تشرح علم الفلك و الأجرام السماوية و تكوين الأرض و جسم الإنسان .. إلخ , و متحف لتاريخ العلوم يحكى قصتها و تطورها منذ العصر الفرعونى مروراً بمرحلة إزدهار العلم فى مكتبة الإسكندرية إلى العصر الإسلامى و مبتكرات المسلمين إلى عصر النهضة الأوربية , لكن أهم وحدات هذا المركز هو قاعة الإستكشاف , و هى قاعة بها تجارب علمية يمارسها الأطفال بأنفسهم خاصة فى مجالات الفيزياء و الفلك , فيستطيع الطفل إجراء تجارب على الجاذبية , و قياسات الألوان و المغناطيسية و الميكانيكا. يتقدم القاعة نماذج من الأدوات الفلكية الإسلامية من إسطرلابات و كرات سماوية و مزاول .. إلخ. و قد ألحق بالقاعة ورش عملية للأطفال. هذه المنظومة المتكاملة أتاحت لأطفال الإسكندرية تردد مستمر عليها رغبة فى مزيد من المعرفة عن مختلف العلوم , لأنه أول مرة نرى تطبيق تعليم العلوم و الرياضيات بطريقة ممتعة تجمع بين التراث و المعاصرة فى وقت واحد. إن هذا يقودنا إلى أهمية إنشاء سلسلة من متاحف تاريخ العلوم التى لا تأخذ حيزاً مناسباً فى وطننا العربى , فهى قليلة جداً , و لا يوجد منها نماذج سوى فى الشارقة و دمشق و الإسكندرية , هذه المتاحف يجب كما أوضحنا سابقاً أن تحمل طابعاً تربوياً لتنشيط إهتمام الأطفال بالعلوم. كما أنه من المفيد إقامة إتحاد لها لتبادل الخبرات. فى ضوء كل ما سبق عرضه , فإن العرض النظرى لمشكلة أو قضية لا يمكن أن يتكامل دون البحث عن تمويل لحلول هذه المشكلة. و الإعتماد على مصادر التمويل الحكومى مستحيل فى زمن ترهق به الحكومات بأزمات إقتصادية و أولويات ليس من بينها تشكيل جيل يحمل فى داخله عمق التراث كجزء من مكونات الشخصية العربية الأصيلة , و الطموح نحو المستقبل كجزء من قبول التحدى المعاصر لوجودنا كعرب فى المنظومة الدولية المعاصرة. لذا يجب إنشاء صندوق لرعاية التراث العلمى العربى يتبع إحدى منظمتين الإلكسو أو الإسيسكو. و مصادر تمويل هذا الصندوق قد تكون متعددة لعل منها الهبات و التبرعات , و طباعة Post card لتمويل الصندوق , و إنتاج أفلام تسجيلية عن هذا التراث و تسويقها لمحطات التلفاز , .. إلخ.