منذ أمد بعيد والمفكرون من أتباع التيار الإسلامي يؤكدون لكافة التيارات الموتورة أن الدولة في الإسلام دولة مدنية وليست علي غرار ما عرف في أوربا في العصور الوسطي أو في العالم في العصور القديمة دولة ثيوقراطية . وأصبح البحث والنقاش حول هذا الجانب أمرا مملا يضطر إليه كثير من الصابرين، في حين يجد فيه المعارضون والكارهون قربانا للسيد الأمريكي الإسرائيلي ومن قبلها بعض الأيديولوجيات والأنظمة السياسية التي نشأت علي كره التيار الإسلامي منذ ما قبل الحقبة الناصرية وحتى الآن . ومن الطبيعي أن يكون هناك عدم التقاء في شكل نظام الحكم بين الإسلام السياسي وبين الأنظمة العسكرية فكلاهما يعتمد علي قاعدة الولاء والطاعة، وبالتالي لا بد أن يفسح أحدهما المجال للآخر ، كما أن الخلاف الحقيقي بينهما يكمن في جانبين هما مصدر التشريع ومفهوم القيمة الأخلاقية والفارق هنا واسع شاسع . والنظام العسكري الذي ينكر الدور السياسي للدين طالما استخدم الدين عند احتياجه إلي المساندة الشعبية ولكنه استخدام شبيه بأسلوب الفراعنة كوسيلة للتأله والهيمنة وليس الالتزام بتعاليمه ومنهجه . فقد استخدمه نظام عبد الناصر كي يتخذ منه ظهيرا شعبيا حيث كان يفتقد إلي هذا الظهير، ثم عادوا وانقلبوا علي جماعات الإسلام السياسي حين أراد أتباعه تطبيق الفكر الشمولي وفق منهج الإسلام ، واكتفي النظام في استخدامه للدين بكوادر من المشايخ لا تتناول سوى العبادات وتسكين الشعوب للحاكم وكذلك بالطرق الصوفية التي تنتهج الزهد والبعد عن الحياة واعتزال السياسة ، بل وحاول النظام تجييش الناس من خلال هذه الطرق لدعم أجهزتهم في الاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي حتى الحزب الوطني . وحين تعرض النظام الناصري لضربة عسكرية سنة 1956 سارع إلي منابر المساجد مستغيثا طالبا الدعم الشعبي بعد أن فقد جانبا منه في أعقاب صدامه مع التيار الإسلامي الشمولي. وعندما تولي الرئيس السادات لم يجد أمامه سوى الاحتماء بالتيار الإسلامي لمواجهة تكتل الماركسيين اليساريين من بقايا نظام عبد الناصر ففتح لهم السجون وسمح لهم بالمشاركة في الحياة العامة، واستخدم مفردات الدين في نيل التأييد الشعبي كتسمية نفسه بالرئيس المؤمن ومصر بدولة العلم والإيمان وغير ذلك ، كما توسع في هذه المفردات في معركة العبور بعد أن غير العقيدة القتالية إلي الله أكبر فحقق النصر العظيم، ثم عاد واصطدم بهذا التيار بسبب اتجاهه المفرط تجاه أمريكا والغرب الذي تطلب إعادة التيار الإسلامي إلي قمقم السجون والمعتقلات كمقدمة لدعم علاقته بالغرب . وظن مبارك أنه لم يعد في حاجة إلي التقرب من التيار الإسلامي بل بالعكس سعى إلي تحجيمه وتكسير عظامه وسجنه وسحله وتجويعه قربانا لأمريكا وإسرائيل والغرب بغية دعم سلطته وهيمنته ومراميه في تحويل مصر إلي ملكية علي غرار ما فعل محمد علي . وانبرى كتّاب السلطة من حملة المباخر وكدابين الزفة والمنافقين ومعهم أصحاب التيارات الفكرية الكارهة للمنهج الإسلامي وعبر كل وسائل الإعلام لمهاجمة التيار الإسلامي برمته وجماعة الإخوان المسلمين علي وجه الخصوص، فلا ينسى أي من هؤلاء أو مقدموا البرامج حين الحديث عن الجماعة أن يقول " المحظورة" وإلا وقع في مصيبة أمام أسياده . ونقب المنظرون الماركسيون والليبراليون الذين يفتقدون إلي أي ظهير شعبي في مصر في تاريخ الجماعة عن وجه من وجوه العيب وفق تفسيراتهم المغرضة والمغلوطة فيتهمونها بالعمالة وإنشاء جهاز سري والإرهاب والعنف، وعبثا حاول الكثير إرشادهم إلي زيف وكذب ما يدعون فيكرروا هذه الافتراءات لأنها رصيدهم ووسيلتهم الوحيدة في التقرب لأسيادهم . وحرص أتباع الأحزاب الورقية علي لبس ثوب الليبرالية أو غيرها في مسعي من الرأسماليين الذين امتلكوها لنيل بعض المكاسب من النظام كصفقة للظهور الديكوري في المعارضة، ولم يحرصوا علي توسيع نشاطهم الشعبي واكتفوا بالصحف التي تطبع في مطابع السلطة في الأهرام ، والسعي للتعيين في مجلس شوري النظام ، في حين تزداد جماعة الإخوان تواجدا في العمل الاجتماعي والارتباط بجماهير مصر وهو ما يثير قلق القوي الخارجية وأذيالهم في داخل مصر. وفي أعقاب ثورة يناير2011 فإن المتابع للشأن السياسي في مصر يري عجبا، فالأحزاب الورقية تجتمع فرادي وجماعات باحثة عن أي دور سياسي بعد أن فقدت أي تواجد أو تأثير في الأحداث فتعلن مرة عن موافقتها علي الحوار مع المجلس العسكري وتارة أخري تعلن رفضها دون أن يكون لها أي مسوغ أو دعوة في الحالتين فلا هي أحزاب حقيقية ولا هي شاركت في صنع أحداث الثورة من قريب أو بعيد . ويحاول بعض روادها زيارة ميدان التحرير الساحر الجديد من باب التطفل أو التعرف علي ما يجري أو حتى ادعاء ذلك ، لكن الجميع يدرك حجمهم وحقيقة دورهم فلا يعبأ بكل محاولاتهم من مؤتمرات صحفية تذيعها قنواتهم أو قنوات نظرائهم، وحين يضيق صدرهم يوجهون سهامهم للتيار الإسلامي المخيف للغرب ويحذرون الشارع المصري منه . وأصبح واضحا لكل المصريين أن شباب التيار الإسلامي وجماعة الإخوان خاصة هم الذين استقبلوا بصدورهم مع رفاقهم الثوار رصاصات القناصة وسيوف معركة الجمل وتحملوا عبئا كبيرا في حماية جموع الثوار المسالمين دون استغلال ذلك في إحداث ضجيج إعلامي أو ربطها كما يحاول غيرهم بمطالب سياسية . ومما يزيد من التعجب أن الكثير ممن يسعون لامتطاء الركب الثوري يتنقلون بين الفضائيات ليطرحوا مطالبهم دون أن يكون لهم دور يسوغ لهم ذلك اللهم إلا فرقعة في الإعلام الذي ما زال منحازا حتى بحكم طبيعة البناء الثقافي للقائمين عليه أو الاستناد إلي السيد الأمريكي، ومنهم من يري أن ذلك الظهير وتلك الفرقعة هي الوسيلة للترشح للرئاسة أو ضمان كرسي في الحفلة الحالية. فيكفي أن يدعي أحدهم الليبرالية أو أنه منظر الديمقراطية وحده وداعي الحرية الشهير وأنهم بهذا ولهذا سيقفون أمام أي تواجد للتيار الإسلامي علي الساحة السياسية. والأكثر غرابة هو أن بعض أتباع التيار الإسلامي لا يزالون يرتضون موقع المدافع المغلوب علي أمره، وربما يكون ذلك راجع إلي تمرس الأنظمة السياسية في تعذيبهم علي مدى فترة تاريخية طويلة، لكنهم حتى في حالات قمعهم يحتلون مرتبة متقدمة لدى شعب مصر، وينبغي ألا يخشون هؤلاء حتى لو استأسدوا عليهم بالسيد الأمريكي فمنهجهم وتاريخهم يجعلهم في الصدارة لأنه غير مستورد بل مستلهم من ضمير وتراث وحضارة شعبهم . وإذا كان التكرار يعلم الشطار فنعاود التأكيد علي أن الدولة في الإسلام مدنية منذ بداية تكوينها في عصر النبي عليه الصلاة والسلام ، فقامت من البداية وفق بيعتين ، وضمت البيعتان الرجال والنساء ، وكذلك المسلمين وغير المسلمين سواء من جانب النبي أو من جانب من بايعوه . كما أن الصحيفة التي شكلت دستور الدولة قد وضعت قبل اكتمال نزول القرآن وهذا يعني فرضية وجود دستور ينظم العلاقة ويقر حقوق المواطنة في الأمة ، والسلطة في هذه الدولة للأمة كما كان من شأن الخلفاء الراشدين الذين ربطوا بين طاعة الناس لهم وبين التزامهم بالمنهج . وأسلوب اختيار الحاكم مصدره الأمة فقط ومتعدد الأشكال كما كان في عهود الراشدين وليس وفق قالب جامد بعينه كما يدعي البعض ورصيدنا الحضاري والأخلاقي في الشرق ومنه مصر ملئ بالقيم التي تدعو لأن يكون تراثنا مصدرا نستلهم منه ما نريد في فترات سعينا للخروج من الانكسارات، وهو أفضل ألف مرة من أن نستلهم من الغرب الكاره لنا، فلنشارك جميعا في بناء غدنا الحضاري بالحفاظ علي هويتنا ودعمها بما يفيدها من الرصيد الحضاري العالمي الذي لنا باع فيه فذلك كفيل بالحفاظ علي هويتنا والفكاك من فخ العولمة والهيمنة ، وهذا أمل في أتباع التيار الإسلامي والتيارات الأخرى كي يصوب الجميع مساره لبناء مصر المستقبل دون مزايدات. * مؤرخ مصري