قد يستطيع المصريون "مسامحة" الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر على كل أخطائه وخطاياه فى حق الوطن طوال فترة من أهم وأدق فترات تاريخنا فى العصر الحديث، وهى أخطاء كثيرة وكثيرة جدًا.."الفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية - الخمسينيات والستينيات" ولكنهم لن يسامحوه أبد الدهر على خطأين كبيرين جدًا. الأول تسليمه جيش مصر العظيم لصديقه "البوهيمى" عبد الحكيم عامر، والثاني تجاهله التام لسيناء -مدن وبشر وتنمية- صندوق الذهب القومى كما وصفها جمال حمدان.. حتى جاء من احتلها واغترفوا من ثرواتها 25 عامًا.. هى مدة احتلالها من تاريخ الشؤم الناصري 5 يونيو 67 إلى 25 ابريل 82م... تاريخ تحريرها ضمن اتفاقية كامب ديفيد التى اختتم بها مجلس قيادة الثورة "صونه" للأمن القومي المصري والعربي!.. ومن يتخذ عند اللئام صنيعة**تجده على أثارها متندما".. وأي ندم يا مصر!!.
قد ينسى المصريون ذهاب أبو الهزائم إلى سوريا واليمن وإنكاره بجهالة جهلاء أن هناك امتدادًا جنوبيًا للكنانة اسمه السودان يمتد خلاله نيلها العظيم نبعًا وتدفقًا. قد ينسى المصريون لأبى الهزائم "عسكرة" السلطة ووأد السياسة، قد ينسون له إفساده لمنظومة التربية والتعليم التى كانت تسير من عشرينيات القرن الماضى بخطى عميقة وناضجة قد ينسون إفساد الأخلاق والضمير القومى بتشييده لجمهورية الخوف المخابراتية، لكنهم أبدًا لن ينسوا له ما فعله فى سيناء بتركها فراغًا مستباحًا طيلة عقدين هما الأخطر فى تاريخنا الحديث كله حتى ابتلعتها إسرائيل فى ستة أيام ليعلن بعدها أنه على استعداد لتحمل المسئولية.. وكانت المسئولية كان من الممكن أن تحمل لغيره!.. وقتها قال أحمد فؤاد نجم "ح تقولى سينا وما سيناشى.. ما ستميه أتوبيس ماشى.. شاحنين أنفار.. إيه يعنى شعب فى ليل ذله.. ضايع كله.. ما كفاية بس أما تقوله إحنا الثوار..".
وسيبقى تجاهل الحكام طيلة الستين عامًا الماضية "عقدة" الأمن القومى المصرى اتهامًا مفتوحًا.. يحاكمون به أمام محكمة التاريخ ضمن ما نعلمه وما لا نعلمه من خيانات جرت وسارت من فوق الطاولة ومن تحتها.. وما أخطر ما جرى وسار.
ما يزيد طينة الخيانات بللاً هو أن علماء وخبراء الإستراتيجية.. عسكريين وأكاديميين أفاضوا واستفاضوا وصرخوا بالليل وبالنهار.. دراسة وبحثًا وتفصيلاً.. وذهبوا فى تغطيتهم لجوانب الموضوع إلى أدق تفاصيله.. ومبكرًا جدًا.. وحين نتحدث عن العلامة جمال حمدان سنقف قبلها عند أحد الأعلام الكبار الذين فرغوا أنفسهم سنوات طويلة إتمامًا لهذه المهمة الوطنية العظمى، وهو الأستاذ الدكتور عبد الفتاح إسماعيل (1916-1972) صاحب "موسوعة سيناء" التى ساعده فى إعدادها ثلاثة آلاف عالم مصري!! فى جميع التخصصات ومجالات العمران واستغرق إعدادها 4 سنوات 1956-1960 من أهم ما جاء فيها"..أن تعمير سيناء ضرورة قومية عظمى لإيجاد حاجز بشرى بين مصر وإسرائيل يمنع عربدة إسرائيل فى هذه المنطقة الخالية من السكان وإن هذا العمل سيحقق وفرًا هائلاً فى الإنفاق العسكرى على المدى الطويل".
تضمنت الموسوعة مسحًا شاملاً لجميع جوانب الحياة فى سيناء.. الجغرافيا والتاريخ والسكان والجيولوجيا والمناخ والحالة المساحية ومصادر المياه والزراعة والبترول والتعدين والمواصلات.
سيكون مهما أن نعلم أن د .عبد الفتاح هو الذي انشأ جامعة الكويت عام 1966م وعمل رئيسًا لها حتى عام 1972م قبل وفاته بقليل.. وكان ممن يؤيدون بقوة تعريب التعليم ويقول أن "اللغة هى وعاء الفكر" ولا يوجد بلد فى العالم يعلم أبناؤه بغير لغتهم..!!.
موسوعة سيناء أهملت وأهمل معها جهد ثلاثة آلاف عالم مصري فى كل التخصصات على مدار أربع سنوات كاملة.. وهذا كان ديدن البكباشي جمال حسين عبد الناصر ورفاقه العظام.
الأمانة تقتضى منا أن نذكر أن كبار رجالات العسكرية المصرية أمثال الفريق يوسف عفيفي واللواء منير شاش واللواء عادل مسعود واللواء محمد نبيل فؤاد.. جميعهم أكدوا -كل من موقعه- الضرورة القومية والإستراتيجية لتنمية وتعمير سيناء وإقامة مجتمعات عمرانية كاملة ونموذجية بها..تحقق الهدفين الأعلى لكل المصريين.. الأمن القومي والاكتفاء الذاتي.. إن لم يكن الوفر والرفاهية.
من قصد البحر استقل السواقي كما يقولون.. والعلامة جمال حمدان (1928-1993م) إحدى ضحايا فساد الجامعات ما بعد يوليو52.. بحرًا كبيرًا حين نتحدث عن الجغرافيا الإستراتيجية.. وله كتاب مهم عن سيناء "سيناء فى الإستراتيجية والسياسة والجغرافيا" يصف فيه سيناء بأنها أحد أهم المفاتيح الإستراتيجية لمصر وأنها بوابة مصر الأولى والكبرى وأنها وحدة جيوستراتيجية واحدة.
سيذكر لنا فى هذا الكتاب كلامًا خطيرًا عن إمكانية النفاذ من سيناء إلى قلب الدلتا عن طريق "وادى الطميلات".. من المحور القاطع الذي يمتد بين الإسماعيلية وأبو عجيلة.. والذي يصفه بأنه العمود الفقري لخطوط سيناء الإستراتيجية "ثلاثة خطوط" الأول قرب الحدود ويكاد يوازيها.. الثانى خط المضايق من السويس إلى البردويل.. الثالث والأخير هو قناة السويس نفسها.."خاصرة" مصر الإستراتيجية.. كما يقول..وكل خط من هذه الخطوط هو بمثابة "خط حياة" لمصر.
سيحدثنا أيضًا عن مضيق "الجفجافة" التى افتخرت جولدا مائير بالسيطرة عليه فى 67 بنفس الطريقة التى حدثت فى 56 اعتمادًا على أن العرب لا يقرأون.. كما ذكرت فى تبرير هذا التكرار غير المعتاد عسكريًا فيقول: "مضيق الجفجافة من أخطر مواقع سيناء الإستراتيجية الذي كانت إسرائيل حريصة جدًا على التسابق عليه والاندفاع إليه بأي ثمن منذ أول لحظة فى الحرب سواء فى 1956 أو 1967. وهو الخط الدفاعي الحاكم والفاصل بين الخطوط الثلاثة..السيطرة عليه تحدد وتحسم المعركة سواء على يمينه أو يساره".
حديثه عن شرم الشيخ التى تحولت إلى منتجع لاستجمام مبارك ورجاله استوقفني.. فهو يصفها بأنها وحدها التى تتحكم تماما فى كل خليج العقبة دخولا وخروجا عن طريق مضيق تيران. فهذا المضيق المختنق لا يترك ممرًا صالحًا للملاحة إلا لبضعة كيلومترات معدودة تقع تمامًا تحت ضبط وسيطرة شرم الشيخ.
يلخص حمدان وضعية "سيناء" فى نظرية الأمن القومى المصري قائلاً: "من يسيطر على فلسطين يهدد خط دفاع سيناء الأول.. ومن يسيطر على خط دفاع سيناء الأوسط.. يتحكم فى سيناء.. ومن يسيطر على سيناء.. يتحكم فى خط دفاع مصر الأخير" خروج إسرائيل بعد 1973 ينبغي أن يكون آخر خروج من مصر منذ يوسف وموسى.. هكذا قال العلامة حمدان.
الفراغ العمراني فى سيناء "ثلاثة أضعاف الدلتا ويعيش فيها نحو نصف مليون مصري"، جعلها مهيأة دائما للعدوان وملائمة لموضوع من أخطر الموضوعات التى تتعلق ب"الهوية المصرية" لسيناء.. وهو ما بدأ مبكرًا بعد "وعد بلفور" واستمر بطبيعة الحال بعد يونيو 1967 حيث أثارته إسرائيل أيضًا.. وهو ما قد يتجدد هذه الأيام.
الرد على كل ذلك يكمن فى كلمة واحدة على -حد قوله- هى "التعمير".. فغياب العمران عن سيناء حتى الآن ليس هدرًا لإمكانية من إمكانيات الوطن وثروة من ثرواته الكبرى فقط.. ولكنه إهمال مروع لقلب مصر النابض "أطول ساحل فى البلاد بالنسبة إلى مساحتها.. أقل صحارينا عزلة.. وفى جيولوجيتها تختزل جيولوجية مصر كلها تقريبا.. ومن أغزر صحارينا مطرًا.." كل ذلك ينتظر تخطيطًا استراتيجيًا ونهوضًا قوميًا يليق بضخامة وعظم المهمة.
الساحل الشمالي غني بالزراعة والغربى بالتعدين والشرقى بالثروة الحيوانية وقناة السويس مزدوجة ويتجمع العمران الكثيف حول ضفتيها وأن تكون هناك سلسلة من الأنفاق تحت القناة تحمل شرايين المواصلات البرية والحديدية.. هكذا تحدث العلامة جمال حمدان.
تعالوا نردد مع امرؤ القيس "ألا أيها الليل الطويل ألا انجل **بصبح وما الإصباح منك بأمثل".