أخيرًا نجحت قوات الحسن واتارا، الرئيس المعترَف به من قِبل القوى الدوليَّة لساحل العاج –وبدعم من الأممالمتحدة والاتحاد الإفريقي- في إسقاط خصم واتارا اللدود، وهو الرئيس العاجي المنتهية ولايته لوران جباجبو؛ حيث كانت كل المؤشرات تؤكِّد أن الشعب العاجي على موعد مع حقبة جديدة، تُنهي ما يقرب من عقدين من الاضطرابات، بدأت مع وفاة الرئيس هوافيه بوانيه، ووصول هنري بيديه للحكم، وخروجه من السلطة، وبداية حقبة مظلمة في حياة الشعب العاجي، لعب فيها لوران جباجبو والإرساليات التنصيريَّة الدور الأهم في شنّ المذابح ضدّ مسلمي البلاد، مما أفضى لتقسيمها بين شمالٍ مسلم وجنوب تسيطر عليه قبائل ال "pad " النصرانيَّة. ولكن وبعد انتهاء هذه الحقبة المظلمة، وسط تأييد دولي للرئيس الفائز في الانتخابات، الحسن واتارا، ونجاح قوات الأخير في اعتقال جباجبو بدعمٍ فرنسي، مما شكّل ضربة قاسية لطموحات الرئيس المنتهية ولايته، في تحدي المجتمع الدولي، والاستمرار في السلطة لأطوال فترة ممكنة، وهي طموحات لم تكن تستند لمعطيات حقيقيَّة، فضلًا عن مخالفتها لما هو دائر داخل البلاد التي أحكمت قوات واتارا السيطرة عليها، خصوصًا في العاصمة السياسيَّة ياماسكور والاقتصادية أبيدجان، مما أفضى إلى إنهاء عصر جباجبو وتطلع البلاد لدخول حقبة جديدة. صراع محسوم ومن البديهي التأكيد أن رفض القوى الكبرى مدعومة بدول الجوار لإطالة أمَد الصراع قد حسم الأمر سريعًا لصالح واتارا، فالقوى الدوليَّة أدركت بعد فترة طويلة صعوبة تحقيق استقرار في أكبر بلد منتج للكاكاو في العالم يبدو صعبًا مع استمرار جباجبو في السلطة، خصوصًا أن مصالحها قد تعرَّضت لمخاطر جَمَّة خلال العقد الأخير، بعد تقسيم البلاد بين الشمال والجنوب، وصعوبة حسم الصراع بينها في بلدٍ كان يُنظر إليه طويلًا كعامل استقرار في غرب أفريقيا، ومركز للأنشطة الاستخباراتيَّة في هذه البقعة المهمَّة من القارة السمراء، بفضل ما يتمتع به من ظروف استثنائيَّة من النادر توافرها في أي من بلاد القارة السمراء. ومن البديهي التأكيد على أن إطالة أمد الصراع داخل ساحل العاج لا يصبُّ في مصالح القوى الكبرى، ولا دول الجوار العاجي، بل إن عديدًا من هذه الدول قد لوَّحَت بالتدخل العسكري في حالة إصرار جباجبو على تحدي المجتمع الدولي قبل أن تحسم قوات واتارا الأمر في النهاية، مما حجّم من الخيارات المتاحة أمام الرئيس المنتهية ولايته، بل أشعل موجة تململ داخل القوى المؤيدة له، ومن بينها الجيش الذي تحوّل خلال السنوات الأخيرة لفرس رهان، لاستمرار هيمنة الأقليَّة المسيحيَّة على البلاد. تحدِّيات صعبة وإذا كانت حقبة جاجبو قد انتهت، فإن الرئيس العاجي الجديد الحسن واتارا يواجه مهمَّة ثقيلة جدًّا لإعادة تطبيع الأوضاع داخل البلاد، ونفض غبار عقدين من الاضطرابات والصراع السياسي، دفعت الساحة العاجيَّة فاتورتهما من أمنه واستقراره ووحدة ترابه، بعد تعرُّض البلاد لتقسيم فعلي بين شطرين، شمالي وجنوبي، وإن لم يكن يحظى بأي اعتراف دولي، حيث حرصت القوى الدولية الإقليمية، ورغم سنوات الصراع الطويلة، على إبلاغ جميع الأطراف رسالة مفادها أن وحدة ساحل العاج تبقى خطًّا أحمر لا يمكن المساس به. ولعلَّ إعادة توحيد البلاد ولمّ شمل الأمة العاجية يبقى المهمة الأصعب للحسن واتارا، بعد ممارساته الفعلية لسلطاته الرئاسية، وهي مهمة تتطلب حكمة وحسمًا في وقتٍ واحد، فالخلافات بين الشمال المسلم والجنوب ذي الأغلبيَّة المسيحيَّة معقدة جدًّا، بل ووصلت لحد القطيعة بينهما، مما يتطلَّب ضرورة الدخول في حوار وطني موسع يضمُّ كافة القوى السياسيَّة في البلاد، وصياغة برنامج توافق وطني يهيمن عليه مبدأ المواطنة كأداة مهمَّة لخروج البلاد من النفق المظلم. سيناريو كارثي لا يساور أحد الشك في أن واتارا مطالَب بإعادة صياغة مفردات اللعبة السياسيَّة في البلاد، التي شهدت منذ استقلالها هيمنة قبائل "pad " المسيحيَّة على الأوضاع السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، وعلى كافة مؤسَّسات الدولة، فيما بقيت الأغلبية المسلمة مهمَّشة ومحرومة من كافة حقوقها، وهي أوضاع لا بدَّ من تغييرها بشكل كامل، ولكن دون أن يكرر واتارا أخطاء بوانية وبيديه، بمعنى محاولة تكرار نفس السيناريو مع الجنوبيين، خصوصًا أن هذا الخيار لن يكون مقبولًا من القوى الدولية والإقليميَّة التوَّاقة لعودة شمس الاستقرار لبلد الأفيال. وبمقتضى هذا التحدي، فالبلاد مقدمة على فصل جديد من تاريخها، يجب أن يسير في إطار خطاب وطني، يجمع ما فرقته سنوات طويلة من الخلافات والصراعات بين الشمال والجنوب، ويضع في الاعتبار ضرورة الاستفادة من جميع الطاقات لإعادة الأمن والاستقرار والوحدة لجميع بقاع البلاد، باعتبار أن أي خطاب عرقي أو ديني قد يعيد الأوضاع للمربع الأول، ويفتح الباب أمام موجة جديدة من الصراع، قد تغذيها أجهزة استخبارات وإرساليات تنصيريَّة، قد لا يسرّها تحول الشمال لنقطة الارتكاز في ساحل العاج. لكن الخطاب التوافقي المطلوب من واتارا لا يعني تخلِّيه عن القيام بعددٍ من الخطوات المهمَّة، من بينها ضرورة تطهير الجيش الوطني العاجي من العناصر الموالية لجباجبو، والتي كان لها الدور الكبير في دعم محاولاته للالتفاف على نتائج الانتخابات الرئاسية، لا سيَّما أن استمرار هذه القوى سيشكِّل عقبة أمام محاولات زعيم حزب تجمع الجمهوريين لإزالة تداعيات عقود المواجهات الدامية والتقسيم، في ظلّ ارتباط هذه العناصر بجهات دولية قد تخوض معارك شرسة لمنع تبوُّؤ الأغلبية المسلمة المكانة اللائقة بها. مؤسَّسات مشلولة لن تقتصر مهام واتارا على هذا الصعيد، بل تتجاوزه أيضًا لضرورة الالتفات إلى الملف الاقتصادي، فالأوضاع المعيشيَّة في البلاد تبدو في غاية السوء، نتيجة الصراع الطويل الأَمَد، والذي حوّل العاجيين من أكثر شعوب إفريقيا رفاهية لواحدة من أكثر الدول التي يواجه مواطنوها صعوبات جَمَّة في توفير المطالب الأساسية للحياة؛ نتيجة الأوضاع الأمنية المعقَّدة، وتعرُّض المؤسسات الإنتاجية في البلاد لما يشبه الشلل خلال السنوات الماضية، وتراجع دخْل البلاد من الكاكاو، والذي يشكّل عصب الاقتصاد العاجي، وهي مهمَّة قد لا تبدو صعبة في ظل القدرات العالية التي يتمتع بها واتارا، والذي شغل مناصب رفيعة داخل صندوق النقد الدولي، وفَّرت له خبرة قد تدعم مساعيه لدخول الجهات الدولية المانحة على خط الأزمة لإنقاذ اقتصاد البلاد. ومما يسهِّل من مهمَّة واتارا الصلات الوثيقة التي تربطه بكل من واشنطن وباريس، باعتبار هذه الصلات العصا السحرية لتأييد العاصمتين لنهجه في إعادة البلاد للمسار الصحيح، فضلًا عن أهمية ضح البلدين لاستثمارات ضخمة في عروق الاقتصاد العاجي المتداعي، مما سيسهم في تحسن الأوضاع وارتفاع أسهم واتارا بين مواطني البلاد، مما يؤهله لبناء دولة عصريَّة قادرة على نفض غبار التهميش والإقصاء والحرب الأهليَّة. خطاب توافقي ولكلِّ ما سبق يجدر بنا التأكيد على أن واتارا سيواجه تحديات شديدة التعقيد لإعادة تطبيع الأوضاع داخل بلاده، بعد أن فرغ من إزاحة جباجبو والموالين له من أبيدجان، غير أن هذه المهمة لا بدَّ أن تليها عدة خطوات، منها تشكيل حكومة وحدة وطنية تتولى تجاوُز السنوات العشر الماضية، وتعيد الاعتبار لمفهوم الأمة العاجية، وفقًا لنموذج المصارحة والمصالحة مع بعض بقايا العهد السابق، دون اللجوء لأي نزعة انتقاميَّة لمن تورطوا في جرائم ضد مواطني الشمال المسلم، باعتبار أن هذا الخطاب التوافقي هو الوحيد القادر على لَمّ شمل البلاد، وتجاوز عقود عانت فيها البلاد من سيطرة الأقلية وتهميشها للأغلبيَّة، وإلى أن يعلن واتارا عن خطواته القادمة ستبقى الساحة العاجيَّة حبلى بالصراعات وبالمفاجآت.