إذا أردت يوماً أن تقيم شخصاً ما من الناس فما هي المقاييس الذي ستستند إليها في تقييمك حتى تحكم أن هذا الشخص محترم وأنه يمتلك من المبادئ والأخلاق والمثل ما يجعل معظم الناس يشهدون له هذه الشهادة وينبغي ألا ننسى أنه لا يوجد إجماع على شخص حتى ولو كان من الأنبياء بالطبع ستصاب بالحيرة لأن كل منا له وجهة نظر في تقييم الأشخاص الذي يحتك ويتعامل معهم أو حتى يقرأ لهم ويشاهدهم دون الاحتكاك بهم وأنا من وجهة نظري المتواضعة أجد أن تقييمي لأي إنسان ينبغي أن يكون من خلال مواقفه وأفعاله وليس من خلال كتاباته وأقواله فكم خدعت في أشخاص يكتبون ويتكلمون عبر خطب عصماء عن الشرف والفضيلة وهم أبعد الناس عنها وأشخاص يكتبون ويتكلمون عن الحرية وحق كل إنسان في التعبير عن رأيه وإذا انتقدتهم معبراً عن رأيك أعلنوا عليك حرباً شعواء والأمثلة على ذلك كثيرة ومن أجل شهادة حق لرجل من الرجال الذين احترمتهم من خلال مواقفهم وأفعالهم أكتب اليوم ناعيا ًرجلاً اختلفت معه فكرياً بشكل كامل ومع ذلك فلابد أن أعترف أنه من أكثر الناس الذين قابلتهم في حياتي احتراماً هذا الرجل هو الأستاذ ضياء الدين داود ابن بلدتي الروضة والمفارقة أن الأستاذ ضياء الدين داود هو رئيس ومؤسس الحزب الناصري وأنا كنت أنتمي للإخوان المسلمين وبالطبع الجميع يعلم جيداً حجم العداء الهائل والتاريخي بين الإخوان والناصريين . وقد صدرت روايتي الأولى عام 98 وكانت رواية سياسية ساخرة عنيفة في نقدها لكل المظاهر السلبية والفساد ولكل التيارات السياسية تقريباً في مصر وقد انتقدت فيها الأستاذ ضياء الدين داود وحزبه على وجه خاص بشكل بالغ القسوة فوجدت الرجل قد قرأ الرواية قراءة متأنية ثم أرسل لي رداً مفصلاً يرد فيه بأسلوب غاية في الرقى والتحضر على كل ما كتبته ويرسل لي أنه يرغب في لقائي والحديث معي لمناقشة كل ما كتبته لكي أتبين وجهة نظره ولكن ماذا تفعل حينما يتملك منك غرور الشباب وتتخيل في نفسك أنك نلت من رجل دخل مجال السياسة وسبر أغوارها قبل أن تولد فترفض وأنت مستمتع بل وتتفاخر وسط أصدقائك أنك رفضت مقابلة الأستاذ والعملاق السياسي الذي كان الجميع يتمنى القرب منه في هذا الوقت ثم تمر عدة سنوات وتجمعني به مقابلة عن طريق المصادفة ويسلم علي مثلي مثل غيري إلى أن ينبهه أحد الأشخاص أنني مؤلف الرواية التي انتقدته فيها فما كان من الأستاذ الكبير إلا أن قام وسلم علي مرة أخرى واحتضنني بحنان الأب ثم عاتبني برقة لماذا لم ألبي رغبته في زيارته ومناقشته فأشعر في هذه اللحظة بكم من الخجل لم أشعر به من قبل ثم سألني عن مؤلفاتي الجديدة ولماذا لا أنشرها فشكوت له من الصعوبات التي يواجهها أمثالي من الكتاب الشباب من صعوبة النشر وعدم التشجيع بل والمحاربة في بعض الأحيان فوجدته يقول بحماس صادق أنه مستعد ليقف ورائي بكل ما يملك وأنه على استعداد لتسهيل أي عقبة أواجهها وأنني يجب أن ألجأ إليه دون خجل وفي أي وقت !! في هذه اللحظة شعرت بالخجل الشديد من نفسي وعرفت معنى أن يذوب الإنسان خجلاً وقد أثر في هذا الموقف بشدة وعرفت أن الرجل هو موقف في المقام الأول وليس كلمات يرطن بها واليوم وبعد أن رحل الأستاذ الكبير ضياء الدين داود إلى رحاب ربه وبعد حياة حافلة مر فيها بالكثير من الانتصارات والانكسارات إلا أن مشيئة الله أرادت أن يرحل بعد نجاح ثورتنا ورحيل نظام مبارك الذي تفنن في إهانة رموز مصر ومنهم الأستاذ الكبير ضياء الدين داود الذي أهانه نظام مبارك ونكل به في شيخوخته فشاء الله ألا يرحل إلا بعد أن ترد الإهانة لمبارك ونظامه مضاعفة عدة أضعاف ؟ هذه شهادة حق لابد أن أشهدها لرجل اختلفت معه فكرياً ولكنني احترمته غاية الاحترام وأشهد له أنه كان يملك من القيم والمبادئ والمثل العليا ما جعل معظم من عرفوه يكنون له الاحترام والتقدير في زمن عز فيه هذا النوع من الرجال فرحمة الله رحمة واسعة للأستاذ والعملاق السياسي ضياء الدين داود وأدعو له أن يتقبله الله قبولاً حسناً وينزله منزلاً كريماً ... آمين .