لم يستمر المناخ السياسي الأردني، الذي تميّز خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الحالي بمسيرات واعتصامات سِلمية كبرى مُطالِبة بالإصلاح، مع الحفاظ على علاقة وديّة وسِلمية بين المتظاهرين ورجال الأمن، فقد بدأت الأمور تنقلِب رأساً على عقِب خلال الأسابيع الأخيرة وبدت ملامِح توتُّر وشحْن سياسي واجتماعي، دفعت بالجميع إلى القلق من المرحلة المقبلة. الإنقلاب على المناخ السابق، بدأ باعتداءات مارستها مجموعة من البلطجِية، الذين لهم علاقة ببعض الأشخاص المقرّبين من الدولة، في منتصف شهر فبراير الماضي، عندما اعتدَوا على متظاهرين معارضين قُرب الجامع الحُسيني وسط العاصمة عمان، ثم بدأت تتّسع ظاهرة البلطجة والتّهديدات للدّاعين للإصلاح. نقطة التحوّل الرئيسية، التي أزّمت العلاقة بين الدولة وجماعة الإخوان المسلمين تحديداً، حدثت عندما تشكّلت لجنة للحوار الوطني وتآلفت من أغلب ألوان المشهد السياسي والإجتماعي، بما فيها مجموعات المعارضة أاليسارية والوطنية الجديدة، إلاّ أنّ الإسلاميين رفضوا المشاركة في اللّجنة ووضعوا شُروطاً متعدِّدة للإنضمام إليها وسحبوا أعضاءهم منها. وبالرغم من المحاولات المُتتالية والحِوارات المتوالية، فقد فشلت الدولة بإقناع الإسلاميين بالمشاركة في لجنة الحوار، إذ شكّك الإسلاميون بجديّة اللجنة وضمانة مُخرجاتها واختلفوا مع "السقوف السياسية" و"الزمنية" المطروحة لإنهاء عمل اللجنة، معتبِرين أنّ الحكومة تُمارس "لعبة شِراء الوقت"، بانتظار ما ستُسفِر عنه التطوّرات الإقليمية العربية وموجة التغيير الحالية. "فجْوة الثقة" بين الحكومة والإسلاميين، انتقلت إلى مرحلة أكثر خطورة لاحقاً، عندما أعلنت مجموعات شبابية على مواقع التّواصل الاجتماعي (الفيسبوك) عن تأسيس حركة أطلقوا عليها اسم 24 آذار، أعلنت نيَّتها إقامة اعتِصام مفتوح في يوم 24 مارس، حتى تتحقق المطالِب الإصلاحية، في ميدان جمال عبد الناصر وسط العاصمة عمّان، وهو ميدان حيوي وشَريان رئيسي للحياة، يربِط المناطق المهمّة من العاصمة مع بعضها. هذا الإعلان استنفَر السلطات الرسمية وأقلقها، لأنه – بنظر المسؤولين – يستنسِخ التجارب العربية الأخرى ويفتح الباب واسعاً أمام امتِداد حركة الاعتصام وتعطيل الحياة ويخلق اختناقات مُرورية كُبرى، في حال زاد عدد المعتصمين وأغلقوا الشوارع الرئيسية، ما يجعل الحكومة والدولة تحت رحْمة هذه الحركة. الوصفة الرسمية الوحيدة للإعتصام، تمثّلت في أنّه "صناعة إخوانية" وأنّ قيادات جماعة الإخوان تُشرف عليه من خلال تحريك الجيل الشاب الجديد في الجماعة، في محاولة ل "لَيِّ ذِراع الدولة في الشارع"، فكان القرار فضّ الاعتصام، مهْما كان الثمن وبسُرعة قياسية! يوم الجمعة الدّامي.. الدخول على خط "المأزق" بالفعل، لم تنجَح المفاوضات مع المُعتصمين وانتهت إلى فضّ الاعتِصام بالقوّة، من خلال رجال الأمن ومجموعات من المُناوئين للمعتصمين تواجدوا في جوار موقع الاعتصام وكانوا ينْهالون بالشتائم والحِجارة على المتجمعين في الموقع. انتهت الحفلة الأمنية القاسِية بسقوط مواطن ومئات الإصابات، وبجملة كبيرة من الإهانات التي نالها الحاضرون من الذكور والإناث، الكبار والصغار، ومن ثم احتفلت قوّات الأمن مع المُناوئين المعتصمين بإنجاز المهمة في الميدان نفسه، وهي سابقة خطِرة في تاريخ الأردن. تداعيات يوم الجمعة الأكثر خطورة، تمثّلت بموجة هِستيرية من التّحريض والهجوم السياسي والإعلامي على المعارضة وجماعة الإخوان المسلمين وحركة 24 آذار، من قِبل تيار رسمي في الدولة والبرلمان والإعلام، وصبغ الأحداث بقالب عِرقي، وكأنّ الإصلاحيين يمثِّلون الوجه الأردني - الفلسطيني ويريدون الإنقِضاض على الحقوق السياسية للشرق أردنيين، مما أثار قلق الشارع العشائري ودفع إلى حالة من الإستنفار الكبير في داخله. النتائج الأولية لهذا التجييش، تمثّلت بولادة مناخ من الاحتقان الإجتماعي والسياسي وأجواء من ترهيب المعارضة والقِوى السياسية، المطالبة بالإصلاح، وتخوينها وشيْطنتها، بل والإعتداء عليها، كما حدث في الهجوم الذي شنّته مجموعة من "البلطجية" على مقَر تابع لجماعة الإخوان المسلمين وسرقة الوثائق فيه والاعتداء على محتوياته، في سابقة خطِرة لم تحدُث حتى في أيام الأحكام العُرفية. وتعرّض الشيخ حمزه منصور، أمين عام جبهة العمل الإسلامي، إلى تهديدات ومحاولات للإعتداء عليه وتم توفير حراسة أمنية له، لم تنفع عندما اقتحم رجل "خمسيني"، أي في الخمسين من عمره، مقر جبهة العمل الإسلامي وهو ثمل، مدّعياً أنه يحمل سلاحاً ناسفاً، فكال الشتائم والوعيد للحاضرين، قبل أن يتدخّل الأمن ويتبيّن فيما بعد أنّ الحِزام لم يكن متفجِّراً ولا ناسفاً، بقدر ما كانت "المسرحية" رسالة أخرى في التهديد والإنذار. الحصيلة النهائية، أنّ الدولة باتت في مأزق بعد أن تجاوزت ردود الفعل الصادِرة عن المعارضين للإصلاح والمقرّبين من المؤسسة الرسمية حدود الرّدع للمعارضة إلى تهديد السِّلم الاجتماعي والأهلي وتشكيل خط دفاع شرِس ضدّ أي إصلاحات سياسية حقيقية، وهو ما يُحرِج الدولة نفسها والتِزاماتها الداخلية والدولية - التي تنال وِفقاً لها - حصّةً جيدة من المعونات الغربية. والمعارضة ليست خارج المأزق، إذ أنّ الحكومة استطاعت تقسيم الشارع بينها وبين المعارضة، من خلال استثارة هواجِس "الشارع العشائري" وتحريضه على الحركة الإسلامية والقِوى الإصلاحية الأخرى، ما يعني أنّ أي تصعيد في الشارع من قِبل المعارضة، قد تكون نتائجه كارثية على الإستقرار الداخلي والسِّلم الأهلي. يوصّف فهد الخيطان، المحلِّل السياسي الأبرز في الصحافة الأردنية، اللحظة الراهنة بمأزق مُشترك لكل من الدولة والمعارضة على السَّواء، ويقول في تصريح خاص ب swissinfo.ch "إن عنوان المأزق السياسي، هو أنّ الدولة متردِّدة ومتباطِئة في إجراء الإصلاحات اللاّزمة للتحوّل الديمقراطي الحقيقي، والمعارضة في المقابل، قادِرة على التأزيم، لكنها غير قادرة على تحريك الشارع بصورة كبيرة". ويحيل الخيطان إلى غِياب التواصل وفجْوة الثقة، تأزم الوضع الحالي، ما يجعل عملية الإصلاح في خطر وربما ينقل الأولوية من الإصلاح إلى انقِسام اجتماعي وإرهاصات أزمة اجتماعية - سياسية خطِرة. فيما يرى أنّ "الكُرة في ملعب الدولة" وأنّ الحلّ يكمُن في قيام الدولة بعملية إصلاحية جِذرية واسعة وسريعة، تقطع الطريق على التكهُّنات والتجاذبات والرِّهانات على "سوء النوايا". أمام هذا المأزق، يرى د. فاخر دعاس، منسِّق حركة "ذبحتونا" وأحد القيادات اليسارية الشبابية الفاعلة في الأردن خلال السنوات الأخيرة، أنّ الحِراك السياسي المطالِب بالإصلاح، ما يزال في إطارٍ نخْبوي، فيما تتَّسع ظاهرة الإعتصامات والإحتجاجات المطلبية، القائمة على المظلوميات الإقتصادية، وهي التي من المتوقّع أن تكون أشدّ تأثيراً وأكثر تماساً مع الهموم اليومية للمواطنين. ويضيف دعاس، في تصريح خاص ب swissinfo.ch، أنّ الدولة لن تستطيع تلبية الاحتجاجات المطلبية، لأنّ كُلفتها الاقتصادية عالية، لكن تأثيرها مباشِر على المواطنين. وهو يتوقّع أن يكون هذا العامل حاسماً في الأيام القادمة في العلاقة مع الدولة، مع ارتفاع كُلفة المحروقات وعدم قدرة خزينة الدولة في الاستِمرار بتحمُّل الفارق بين السوق المحلية والعالمية، ومع الأزمة الاقتصادية الحالية في العجْز الكبير في المُوازنة والمديونية والظروف الاقتصادية المختلفة. وعلى هذه الفرضيات، يبني دعّاس رؤيته ب "ضرورة اندماج الحركة السياسية الإصلاحية بالحركة المطلبية"، حتى تكون قادِرة على توجيهها لتحقيق أكبَر قدْر من المصالح الاقتصادية والسياسية. على كلّ، فإنّ ما يذهب إليه كل من الخيطان وفاخر دعاس، هو أنّ هنالك أزمة لدى الدولة، سواء تمثلت في غِياب الإرادة السياسية أو ضُعف القُدرة على الاستجابة، وأنّ البدائل المطروحة للإصلاحات الجِذرية، التي تمُرّ عبْر التوافق مع الدولة، هي أكثر كُلفة على الدولة والمجتمع، في حال استمرت المُماطلة الرسمية الحالية. المصدر: سويس انفو