قصة سمعتها عدة مرات ولم أتأكد من صدقيتها تاريخيًا، عن مبشر غربي اسمه صمويل زويمر مارس جهودًا تنصيرية فاشلة في مصر في أوائل القرن العشرين، في إحدى جلساته التنصيرية جمع له مساعدوه عددا من البسطاء والفقراء تم إغراؤهم بهدايا بسيطة وجلس زويمر بينهم يحدثهم مطولاً عن عقيدة التثليث وهم عاجزون عن فهمها، عطش الرجل بسبب كثرة الكلام في حر القاهرة فطلب كأسا من الماء وأثناء شربه ساد الصمت المكان، وكعادة البسطاء في مصر في لحظات الصمت صاح أحد الجالسين "وحدووووه" فهتف الجميع "لا إله إلا الله" جن جنون الرجل وتشنج فألقى كأس الماء وأنهى اللقاء. لا أدري لماذا قفزت إلى ذهني هذه القصة وأنا أتابع ردود فعل العديد من حملة رايات الديمقراطية والليبرالية في عالمنا العربي، الذين طالما نددوا بأنظمة الحكم الشمولية التي تحكم معظم بلادنا بالقمع والقهر، فلما بدأت هذه الأنظمة تترنح أشادوا بثورات الحرية مبتهجين، ثم تكشف لهم أن فجر الحرية البازغ قد يسمح بوصول شعاع الإسلام الذي كان محجوبا عن هذه المجتمعات، فما لبثوا أن انتكسوا عن دعاواهم بل عن قناعاتهم ليحذروا مما قد تؤول إليه هذه الثورات الناشئة، ليذكرونا بالدعوات التي أثارها أضرابهم بعد فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ بالجزائر في انتخابات حرة نزيهة حيث رفعوا شعار "لا حرية لأعداء الحرية"، مما دعا الجيش الجزائري للانقلاب وأدخل الدولة في مستنقع أسن من العنف والقتل والدماء دفعت الجزائر ثمنه غاليًا فيما اصطلح على تسميته بالعشرية السوداء. الدكتور وحيد عبد المجيد يكتب لنا في الأهرام مقالا يندهش فيه ويتخوف من اقتحام السلفيين ميدان العمل السياسي والاجتماعي في مصر بعد طول هجران، والأستاذ مشاري الزايدي يكتب لنا مقالا مطولا في الشرق الأوسط ليقنعنا فيه بأن الإخوان يلتفون على ثورة اليمن ليجنوا ثمرتها، ومن قبلهما يكتب لنا الدكتور حمزة المزيني مقالا في الوطن يتحدث فيه عن إسقاط الثورات لمنهج الوصاية ويشير فيه من طرف خفي إلى عودة الوصاية على يد التيارات الإسلامية، وهذه مجرد أمثلة يدعمها الكثير من المقولات المشابهة في كافة وسائل الإعلام التي يملك الليبراليون اليد الطولى في السيطرة عليها. ولكن الأعجب من ذلك حالة التشنج التي أصابت معظم الليبراليين المصريين الذين يدعون تمسكهم بالديمقراطية والحرية والتعددية والاحتكام للجماهير، والذين كانوا بلا شك ولا جدال من أكبر الداعمين لثورة شباب مصر، فإذا بهم ينكصون على تلك المبادئ عندما صعقتهم نتيجة الاستفتاء على التعديلات الدستورية بنتيجة تقارب ال80% الذين قالوا نعم، ولعل من أغرب ما اطلعنا عليه في هذا المجال تصريحات الأستاذ عصام سلطان المصورة على الفيسبوك عن المسرحية التي أدارتها "المصري اليوم" بتمويل أمريكي، في محاولة بائسة للتأثير على الرأي العام عشية الاستفتاء، بدافع واحد (معلن) هو التخوف من السماح بدور أكبر للتيار الإسلامي في المشاركة في العملية السياسية وتشكيل المجتمع الواعد. أتذكر أنني حضرت لقاءً في نادي جدة الثقافي الأدبي للدكتور "تركي الحمد" الروائي وأستاذ العلوم السياسية الذي يقدم نفسه ويقدمه مريدوه على أنه رائد الليبرالية السعودية، وفوجئت به في محاضرته يحمِّل الإسلاميين عمومًا والأخوان خصوصًا مسئولية تخلف مجتمعاتنا العربية، ثم يبشر الحضور بأن التيار الإسلامي ينحسر وفي طريقه إلى الزوال، فاجأني طرح الرجل داعية الحرية والتعددية فطلبت التعقيب وقلت عبارة قصيرة هادئة "إنني أبغض أن يكون الأصولي إقصائيًا ولكنني لا أستغرب إن حدث منه ذلك لأنه ينطلق من منطلقٍ إحادي، أما ما يدهشني إلى حد الذهول هو أن يكون الليبرالي إقصائيًا لأن التعددية من أهم ثوابته الفكرية"، غضب الرجل بشدة وقال:"أنا لست إقصائيًا .. ومن يطالب بإقصاء الأخر فتأكد أنه ليس ليبراليًا ولو ادعى ذلك، وإنما عنيت بكلامي تيار العنف الديني وليس التيار الإسلامي"، ورغم تناقض هذا التعقيب التبريري مع ما حفلت به محاضرته فقد آثرت احترام وقت الحضور وعدم الدخول في جدال عقيم. لقد قرأنا كثيرًا في السابق دعوات لهؤلاء الليبراليين للحكومات بأن تسمح للإسلاميين بدخول المعترك السياسي، اعترافًا بكونهم أحد المكونات الثقافية للمجتمع العربي، وتفاديًا للجوئهم للعمل السري الذي لا تحمد عقباه وكم عانت بلادنا من ويلاته، وكان دخول المعترك السياسي محل جدال وتنازع كبير وطويل بين الإسلاميين أنفسهم، فلما بدأ معظمهم يستجيب لهذا التوجه الحضاري، انكشفت حالة الفصام التي يعيشها كثير من الليبراليين وليس جميعهم والحمد لله. لا استبعد بحال تأثير التيار الإسلامي في مصر على نتيجة الاستفتاء، ولكن أن ننسب إليه هذه النتيجة التي أذهلت الجميع فأظن أن في هذا استهانة بالشعب المصري الثائر وأبنائه ومثقفيه، كما أنها وفي الوقت نفسه شهادة تفوق مجانية نمنحها لهذا التيار قبل دخول الاختبار، بما يعني أن هؤلاء المفكرين الذين قدموا لنا أسوأ مثالٍ لدكتاتورية الأقلية يدفعون الشعب للمزيد من التقارب والتلاحم مع التيار الإسلامي، بعد أن قدموا أنفسهم (متطوعين) محامين عن الشيطان.