حان الوقت أخيرًا لنلتفت نحو المستقبل ونحلم بوطن جديد، وطن بدأنا نشعر أننا نملكه، وأننا أصحاب القرار فيه، ولكن حلمه بدأ هناك منذ زمن بعيد. هل تذكرونه؟ كان حلم حياته أن يكون طبيبًا جراحًا للمخ، ولكن آماله باءت بالفشل.. ليضطر بروح أقل حماسة إلى الالتحاق بكلية العلوم جامعة عين شمس التي تخرج منها، وقام بتدريس الجيولوجيا كمعيد بجامعة أسيوط، تمكن من الحصول على منحة لاستكمال دراسته بالولايات المتحدة، حيث نال منها شهادة الماجستير في الجيولوجيا والدكتوراه في التكنولوجيا الاقتصادية، ليعود إلى مصر وكله أمل في أن ينال التقدير العلمي الذي يمكنه من مواصلة أبحاثه، ولكنه تفاجأ بأن عليه أن يعمل مدرسًا للكيمياء في المعهد العالي بالسويس، الأمر الذي اضطره إلى أن يتخذ قرار السفر سرًا إلى أمريكا مرة أخرى. وهناك بدأ رحلة جديدة وشاقة للبحث عن عمل، فنظرًا لوصوله بعد بدء العام الدراسي فإن أياً من الجامعات الأمريكية لم تقبله؛ ولكن اليأس لم يتسرب إلى نفسه.. فاستمر في إرسال طلبات العمل إلى شركات جاوزت المائة، إلى أن قبلته وكالة "ناسا" لأبحاث الفضاء؛ ليبدأ رحلته معها من خلال أحد المؤتمرات الجيولوجية التي تحدث فيها علماء القمر عن فوَّهاته وتضاريسه، والتي كانت بالنسبة له طلاسم لم يستطع فهمها، وحينما سأل أحد الحاضرين عن كتاب يجمع هذه التضاريس، مثلت إجابته صدمة أخرى له، حينما اعتبر أنه "لا حاجة إلى أي كتاب فنحن نعرف كل شيء عن القمر"، وهي الإجابة التي حرَّكته إلى مزيد من البحث والمعرفة، ليعكف على دراسة 4322 صورة وكتاب عن القمر طيلة ثلاثة أشهر كاملة، مكنته من التوصل إلى معلومات لما يقرب من 16 مكانًا يصلح للهبوط فوق القمر، وعندما حضر المؤتمر الثاني كان على المنصة يعرض ما توصل إليه من معلومات، وسط تساؤل الحاضرين عن ماهية المحاضر، حتى إن العالِم الذي أكد له من قبل معرفة كل شيء عن القمر صافحه بحرارة واعترف له بأننا "قد اكتشفنا الآن أننا كنا لا نعرف شيئًا عن القمر". ذلك هو الدكتور فاروق الباز.. العالم المصري الذي دخل التاريخ من أوسع أبوابه، حينما أوكلت له "ناسا" المهمة الرئيسية في أول رحلة لهبوط الإنسان على سطح القمر لاختيار مواقع الهبوط وتدريب طاقم روَّاد الفضاء على جمع وتصوير العيِّنات المطلوبة، وهناك ومن على سطح القمر وتقديرًا لأستاذه؛ بعث "نيل آرمسترونج" أول رائد فضاء برسالة إلى الأرض باللغة العربية، حيث كان يصطحب معه أيضًا ورقة مكتوب عليها سورة الفاتحة، ودعاء من" د.فاروق" تيمنًا منه بالنجاح والتوفيق، لتستمر رحلة نجاحه ويحفر اسمه في سجلات المجد بحصوله على أكثر من 31 جائزة عالمية تكريمًا لإنجازاته العلمية التي خدمت البشرية، لدرجة إطلاق اسمه على مكوك للفضاء، كما تم انتخابه كعضو أو رئيس لما يقرب من 40 من المعاهد واللجان العلمية على مستوى العالم. وبالرغم من كل هذا النجاح، إلا أن عيون "الباز" كانت دومًا تتجه إلى مصر، وهو ما دعاه للموافقة فورًا على اختيار الرئيس السادات له كمستشار علمي، حيث كلَّف بمهمة اختيار أماكن صحراوية تصلح لإقامة مشروعات عمرانية جديدة، وهو الأمر الذي تناوله بمنتهى الجدية.. ليبدأ دراسة متعمقة وأبحاث تستمر لأكثر من 25 عامًا من الجهد والعمل، يعلن في نهايتها عن حلمه للأجيال القادمة ولمستقبل مصر من خلال مشروع "ممر التعمير والتنمية"، والذي يهدف إلى إقامة ممر يتوازى مع وادي النيل، ويرتبط معه بأفرع فيما يسمى بسلم التنمية، وهو الحلم الذي سيفتح مجالاً لبناء مدن وقرى جديدة في مراكز التكدس السكاني المقترحة، وبذلك يمكن وقف التعدي على الأراضي الزراعية كليًا، ويفتح المجال للاكتفاء الذاتي من الغذاء. هذا الممر المقترح سيكون فيه طريق مواصلات سريع يتكون من 8 ممرات مطابقة للمواصفات العالمية، وبجانبه خط للسكة الحديد، وأنبوب مياه قطره نحو 1.6 متر بطول 800 كيلومتر لنقل المياه من بحيرة ناصر إلى منطقة العلمين، وبجانب أنبوب المياه يقام خط للكهرباء، لتتوفر بذلك كل المقومات الرئيسية للحياة، ويتفرع من هذا الممر 12 طريقًا فرعيًا عرضيًا، كل منها في مكان تم اختياره بعناية ولأسباب قوية مدروسة، فمثلاً فرع العلمين- الإسكندرية يقترح قيام ميناء جديد في العلمين بدلاً من ميناء الإسكندرية الذي أصبح متهالكاً؛ لأن حركة تيارات البحر في العلمين أنسب بكثير، كما أنه يمكن أن تصلنا البضائع من الخارج، خلال ثلاث ساعات من الميناء الجديد إلى القاهرة، أما فرع طنطا فتم اختياره لربط الدلتا كلها بالوادي الجديد المنتظر لكونها البلد الوحيد في وسط الدلتا الذي به شوارع تتصل بكل الدلتا، كما توجد فروع أخرى للفيوم والواحات البحرية والمنيا وأسيوط وقنا وأسوان والأقصر وكوم أمبو وأبو سمبل، كل منها تم اختياره بعد دراسة معمقة. وأخيرًا بدأ مشروع ممر التنمية يأخذ حيز التفكير والدراسة الجادة، صحيح أن ذلك أتى متأخرًا، فمع بداية الفكرة عام 1982 كانت تكلفته 6 مليارات جنيه، أما الآن فتصل تكلفته إلى 24 مليار جنيه، وهو رقم يمكن توفيره بسهولة بدون تدخل الحكومة، حيث ستؤول ملكية المشروع للشعب عبر سندات وأسهم يتم طرحها مقابل جنيه واحد للسهم، ويمكن الانتهاء من المشروع -وفق تقديرات الباز- من 5 إلى 7 سنوات من العمل الجاد. إذا كانت الأجيال الحالية من الشباب لم تعايش أية انتصارات لمصر على الصعيد العسكري أو السياسي أو العلمي، واستطاع النظام أن يضعف من الانتماء الوطني لهذا الجيل، فقد وجدنا جميعًا المشروع والحلم الذي يمكن أن نلتف حوله، دعونا نستغل هذه الدفعة المعنوية الهائلة بعد الثورة، وروح التحدي التي تسري الآن في جسد كل مصري، حان الوقت أن تصبح مصر هي الدولة الأولى عالميًا في كل المجالات، أنا لا أبالغ على الإطلاق، ولكني أٌقدر بحق إمكانيات بلدي، وإمكانات شبابها ورجالها، أرجوك أن ترفع رأسك عاليًا.. فأنت مصري. [email protected]