يردد اليمنيون طرفة عن الفساد الشائع في البلاد مصدرها صحفية أمريكية حاولت دراسة المجتمع اليمني والتعرف على أحواله، فقالت في خاتمة جولاتها: « لقد عرفت الله في اليمن»!!! فقد كانت تتعجب أشد العجب وهي تبحث عن منطق للفساد فلا تجد من المستجوبين إلا عبارة: «الله أعلم». إذ أنها لم تكن لتعرف، على وجه الدقة، كيف يمكن لشاب يمني، الأرجح أنه عاطل عن العمل، أن يصرف قرابة 300$ في الشهر بينما الدخل الشهري، للعامل، لا يتجاوز 100$ في متوسط الأحوال. فكيف يمكن لمجتمع أن يستمر في الحياة بصورة طبيعية بينما يعجز العلماء عن تفسير ظواهره؟ وكيف يكون حال مجتمع استفحلت فيه قيم الاستعباد والبلطجة؟ « البلطجة» لفظة مصرية شعبية، ذاع صيتها خلال وقائع الثورة المصرية. وهي، بحسب بعض المصادر، من الأفعال المتكررة على مر الزمن، والتي تنطوي على خلل حقيقي أو متصور في القوة بالنسبة للطفل الأكبر، أو بالنسبة لمجموعة تهاجم مجموعة أخرى أقل منها في القوة. وينسبها البعض إلى عهد الدولة العثمانية خاصة لوحدة من الجنود، الذين يحملون البلطة ويتقدمون القوات لقطع الأشجار بها، وشق الطرق أمامها، أو فتح ثغرات في الجدران، والقلاع، والحصون، التي يستعص اقتحامها، ويقال أنه فى عصر محمد علي باشا كانت مثل هذه الوحدات تسمى ب « قوات البلطجية». لكن ما علاقة اليمن واليمنيين بالبلطجة؟ « البلطجة» في اليمن باتت فعلا اجتماعيا أوسع مما أن يتصوره عقل بشري. فهي مستوطنة في الفرد والمجتمع والدولة بأشكال عديدة من السلوكيات والقيم بدءً من الكذب والغدر والنفاق والخبث واللؤم والانتهازية، .. مرورا بالرشوة والنصب والاحتيال والسرقة والسطو والابتزاز وقطع الطرق، .. وانتهاء بالقتل والاغتصاب واستباحة الدماء والأعراض. وتبعا لذلك فهي كائنة في القبيلة والسياسة والإدارة والعسكر والأمن والقضاء والطب والاقتصاد والتعليم، وكل القطاعات الاجتماعية والإنتاجية. وقد بلغت مخاطرها مبلغا حتى غدت تعبر عن منطق قيمي وثقافي، وسلوك معيشي يستنزف في طريقه كل فضيلة إنسانية. حتى بات الكل، إلا من رحم الله، يستعمل منها ما يلائم احتياجاته في علاقته بالآخرين. من يعرف اليمن يدرك أن الثورة، كما هو الحال في مصر وليبيا وتونس، أكبر من مطالب حقوقية كالإصلاحات أو مقاومة الفساد والظلم الاجتماعي والاقتصادي أو الخروج من التخلف أو وقف سرقة موارد أو العمالة والخيانة وما إلى ذلك. فثمة الحكمة!! وقد أثنى الله سبحانه وتعالى عليها بقوله: { يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } [البقرة : 269]. ميزةٌ منَّ الله بها على أهل اليمن، وشهد لهم فيها أشرف الخلق، صلى الله عليه وسلم، حين قال: « الإيمان يمان والحكمة يمانية والفقه يمان»!!! ولعظمتها فقد اختلف المفسرون بمعناها. ففسرت بالسنة، أو الموعظة، أو القرآن. وفي مواضع أخرى من أقوال العلماء فسرت بالنبوة، أو الفقه في القرآن، أو المعرفة بدين الله، أو الفقه فيه، أو الاتباع له، أو الخشية، والورع. وروى ابن وهب عن مالك أنه قال فيها: « إنها المعرفة بالدين، والفقه في التأويل، والفهم الذي هو سجية، ونور من الله». هذا ما يجب أن يمتاز به الشعب اليمني أكثر من غيره من البشر. أما الشاويش فقد سلبه هذه الميزة، وجرّعه أوطى القيم الأخلاقية. لكن إذا كان لزاما علينا أن نتخيل كيف تكون قيم الأمة رفيعة وهي تتمتع بالحكمة!!! وكيف تكون وضيعة حين تفقدها!!! فعلينا أن نتوقع أن أهم التغييرات المنتظرة في سياق الثورة اليمنية وما بعدها، ستمس حُكما ميزة هذه الأمة في الصميم. فمع بدء الثورة، صرنا نلاحظ إما استبدالا لقيم البلطجة بقيم أخلاقية، أو استعادة للقيم الشرعية، أو خلق قيم جديدة مميزة لم يعد شيخ القبيلة يرى، بموجبها، حرجا من التفاخر بثورة الشباب والانصياع لتعليماتهم أو توجيهاتهم، والتصريح علنا بأن القبيلة لم تحضر إلى ميدان التغيير في صنعاء لتنتزع القيادة من الشباب بل لتساندهم وتكون تحت قيادتهم وتأتمر بأمرهم. هذه هي ميزة الثورة اليمنية خاصة، وشقيقاتها في الدول العربية الأخرى عامة. انطلقت أولى شرارات الثورة الشاملة، ودون انقطاع، في 29/12/2010، حين اعتصم مئات اليمنيين أمام مبنى البرلمان احتجاجا على التعديلات التي أدخلها الشاويش على قانون الانتخابات، ليضمن بها رئاسته إلى الأبد. قبل هذا التاريخ لم تكن احتجاجات الجنوب، ولا الحرب الحوثية المستعرة منذ سنة 2004، لتشكل فارقا كبيرا رغم شدتها وبأسها. فقد بقيت عوامل الاصطفاف الشعبي على هدف محدد واضح مفقودة إنْ لم تكن ملتبسة لجهة دعوات الانفصال أو مرفوضة لجهة التمرد الحوثي في الشمال. أما وقد أعلن صالح عبر قانون الانتخاب الجديد تأبيد نفسه وأقربائه في السلطة فقد أصبحت الأمور واضحة جلية لا لبس فيها. فإما أن يستمر الظلم والغبن والبلطجة إلى أمد بعيد، وإما أن يتم خلعه. هكذا، بدأت البلطجة تتكسر، خطوة خطوة، كلما بدت إدارة الشباب للصراع مع السلطة الجائرة متحصنة بالحكمة في وجه سلطة غبية ظنت أن احتلال « ميدان التحرير» في العاصمة صنعاء من قبل بلطجيتها سيقطع الطريق على الشباب. فكان الرد ب « شباب التغيير»، حفظا للدماء، وتفويتا للفرصة على « بلطجية التحرير» من أن ينالوا، بجرائمهم، من الصورة الناصعة ل « ميدان التحرير» في القاهرة. بل أن الرد توالى باستقالات الكثير من الجنود والضباط اليمنيين، والمسؤولين والسفراء والنقابيون والمعلمون وحتى الوزراء وأعضاء حزب المؤتمر الحاكم وشيوخ القبائل. ومع أن الثورة اليمنية شعبية بمكوناتها، وجماهيرية بملايينها، ومنضبطة بأدائها إلا أن السلطة ظلت تردد بلسان رئيسها عبارة « المندسين» التي صارت ديدن الحكام الذين يبدو أنهم يخاطبون أنفسهم وسط رهانات خاسرة جملة وتفصيلا. فقد راهن الشاويش علي عبد الله صالح، محليا، على بلطجية الفساد وأهله، وراهن على قيم البلطجية المنحطة التي أشاعها بين الناس طوال ثلاثين عاما خلت، وراهن على الجهلة والمنتفعين والمنافقين الذين يطبلون له دون عقل أو دين لقاء حشوة من نبتة القات أو حبة بطاطا مسلوقة، وراهن على سطوته في السلطة ليخرج مئات الآلاف من الموظفين والطلاب الذين استجلبهم تحت وقع التهديد والوعيد وزج بهم في تجمعات الموالاة الزائفة، وراهن على بعض شيوخ القبائل الذين روضهم على الفساد أو صاهرهم لابتزازهم في مثل هذه الأيام، وراهن على الوقيعة بهم كما كان يفعل طوال حكمه، وراهن على أحزاب اللقاء المشترك التي ظلت، إلى حين مذبحة « جمعة الإنذار – 18/3/2011» تراوح ما بين ضغط الشارع من جهة والحوار مع السلطة من الجهة الأخرى، وراهن على تصعيد أطروحة الانفصال التي سقطت بتوجه قوافل المتظاهرين من مدن الجنوب نحو صنعاء، وراهن على صف الكلام ومبادرات الحوار الفارغة إلا من الكذب والخداع الذي بات يستفز كل من وطئت قدمه اليمن من أهلها ومن غير أهلها ... ولا شك أنه راهن، دوليا، على السماح له بخوض حرب أهلية، استلهم فكرتها وفعالياتها ومشروعيتها من جرائم القذافي، ومن يساندونه من العرب والغرب واليهود، حين أرسل له مبعوثا خاصا، ودماء أهل ليبيا تنزف بغزارة في كل شبر من أرضها الطاهرة، وراهن على الولاياتالمتحدة حين استمع للسفير الأمريكي في صنعاء جيرالد فيرشتاين وهو يردد اسطوانته المشروخة منذ أكثر من شهرين: « نحن واضحون في القول إننا لا نعتقد أن المظاهرات هي السبيل الذي يمكن أن تحل من خلاله مشكلات اليمن، نعتقد أن المشكلات يجب أن تحل من خلال تلك العملية من الحوار والمفاوضات ... سؤالنا دائما هو إذا رحل الرئيس صالح ماذا أنتم فاعلون في اليوم التالي؟» والأكيد أن انتشى حين تلقى من مستشار البيت الأبيض لمكافحة الإرهاب جون برينان اتصالا هاتفيا، بعد مبادرته الأخيرة، أبلغه فيه ب: « ترحيب أمريكا بخطواته لحل الأزمة السياسية في اليمن». ما يجري في اليمن مأساة شعب يدرك الحقيقة بأدق تفاصيلها، لكنه أجبر على التعايش معها ردحا من الزمن، كما أُجبر الشعب الليبي والشعب المصري والشعب التونسي، وكما أُجبرت كل الشعوب العربية على التعايش مع الصمت والقهر والإذلال عقودا طويلة. شعب لم يعد لديه شيء يخسره منذ زمن بعيد، لكنه اليوم يتعرض للمطاردة في الساحات والميادين والطرق والحواري والأحياء. ولمذبحة ينفذها قتلة النظام باستخدام الرصاص الحي وأنواع من الغازات تشعل الأجساد لهيبا، وتتسبب برعشات شديدة الألم. فلطالما غدر جنود الشاويش وبلطجيته بالمعتصمين في ميادين التغيير في صنعاء وعدن وتعز ومأرب وحضرموت وإب والحديدة وغيرها من المدن، حتى وهم نائمون. ولطالما أوقع الغدر، بالرصاص والقنابل اليديوية والغازات السامة، قتلى وإصابات بالعشرات في صفوف الأبرياء حتى ضج الأطباء من هول الجريمة. ومذابح أخرى خفية عن الأعين ووسائل الإعلام ينفذها رجال الأمن السياسي والعسكري والمركزي وقطاع الطرق والمجرمون الذين استنجد بهم الشاويش وتبرأ منهم على وسائل الإعلام. في « جمعة الإنذار» كانت الجريمة أوضح من كل بيان. فالقناصون لم يكتفوا باعتلاء أسطح المنازل المطلة على « ميدان التغيير» أو إطلاق النار من شبابيك البنايات أو استخدام كواتم الصوت بل والتربص بالمعتصمين على مداخل الشوارع، حتى إذا ما فروا من زخات الرصاص الصامت، أو احتموا بالجدران، فوجؤوا بمن يمطرهم، وجها لوجه، بوابل من الرصاص. ولا ريب أنه سلوك لا ينطوي إلا على إشباع شهوة القتل والانتقام، كما شعر به المعتصمون أنفسهم، وكذلك الغدر بكل ما في الكلمة من محتوى لا يتواجد إلا في عقلية اليهود وسلوكهم مع غيرهم من البشر. ما من معنى لاستخدام النظم السياسية للبلطجة إلا أن تكون هي نظم بلطجة لا أكثر ولا أقل. فلما استنفذت مراوغاتها وحيلها ونفاقها انكشفت على حقيقتها .. نظم قاتلة ومدمرة لا علاقة لها بأية مرجعية أخلاقية أو دينية .. نظمٌ مستعدة، إذا فقدت أية شرعية أو أمل في البقاء في السلطة، أن تستعمل أحط المخلوقات البشرية سلوكا لتفتك بالأبرياء من خلق الله .. نظمٌ إذا لم تجد من يقاتل معها دفاعا عما اغتصبته من سلطة ونفوذ وموارد وثروات فهي مهيأة لاستجلاب المرتزقة كي تحتفظ بكراسيها .. نظمٌ ثبت، بالدليل القاطع لكل أعمى وبصير، أن لا علاقة لها تذكر بأي تقدم أو نهضة أو رقي أو حقوق .. ولا علاقة لها تذكر بقضايا الأمة ودينها .. نظمٌ زعمت طويلا دفاعها عن فلسطين وغير فلسطين فإذا بها تبتلع ألسنتها فجأة، وتنسج العلاقات الخفية والعلنية مع اليهود، وتمنع الدعاء عليهم، وتركب مركبهم في تدمير الأمة وقتل الملايين منها، وتستقوي بهم، على الملأ، وتستورد منهم الأسلحة والخبرات والمرتزقة، وتستعين بهم على شعوبها، وقت الحاجة، دون أن يرتد لها طرف .. نظم لم تستعمل رصاصة واحدة ضد اليهود لكنها تجرأت، بأسرع مما يتصوره العقل، على قتل الشعوب واستهدافها بالطائرات والمدافع والدبابات وراجمات الصواريخ، وكأنها شعوب غازية لسلطتها!!!! في « جمعة الإنذار» تناقلت وسائل الإعلام قتل الشاويش 52 بريئا وإصابة نحو 300 منهم. لكن ما خفي من أعمال البلطجة وتداعياتها أعظم. ومع ذلك يخرج الشاويش، بكل وقاحة، ليقول بأن الشرطة لم تكن في الميدان حين وقعت المجزرة!!! وكل ما في الأمر أن هناك مجموعات حاولت اعتراض مبادرة عربية للتوسط بين الجمهور والسلطة لإفشال الحوار!!! ولو كان ما يقوله الشاويش ينفع تصنيفه في خانة الأعذار لقلنا أنه عذر أقبح من ذنب. لكنها الجريمة التي تكشف وقائعها عن بلطجية تربى عليها منذ كان خادما منحطا لمن هم أوسخ منه أخلاقا، وأحط مكانة. ولو كان اليمنيون يثقون بفضيلة واحدة يتمتع بها لمَا اندفعوا، إثر المجزرة، بمئات الآلاف إلى ميدان التغيير .. ولمَا احتقنت مدينة تعز وأخواتها غضبا مريرا لن يطفئه سوى محاكمة هذا المجرم ونظامه .. ولمَا اضطرت أحزاب اللقاء المشترك إلى حسم موقفها من أي حوار معه بعد أن استنفذ منها كل تردد مشين. إنْ كان الشاويش سيراهن على آلته القمعية والعسكرية من الأجهزة التي يسيطر عليها بأبنائه وإخوانه وأبنائهم فليفعل إنْ استطاع. لكنه يعلم علم اليقين أنه بات قاب قوسين أو أدنى من رحيل لن يفلت منه دون أن يحمل معه أوزار عقود من الآلام التي جرعها لأهل الحكمة. ولن ينفعه الاسترشاد بنموذج القذافي. فالحشود اليمنية، وكثافة سكان المدن، فضلا عن تحطم المراهنات، وتنوع القوى الاجتماعية والمؤسسية المناهضة له، ستحول بشكل كبير جدا دون الانزلاق في حرب أهلية. ومع ذلك فلا بد من التنبه، والحكمة يمانية، إلى أن هذه الحشود التي جردت الشاويش وأقاربه من لذة الشعور بجنون العظمة، كما هو الحال عند زميله، قد لا تمنعه من إتيان « البلطجة» وارتكاب المزيد من المذابح انتقاما. من آيات الله في الشاويش وأمثاله أنه يتصرف كالفراعنة، لا يقنع بحوار ولا بمنطق، ولا يريد أن يرى إلا ما يراه هو في مصلحته، َفهل سيقول ما قاله فرعون:{ َءامَنتُ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱلَّذِىٓ ءَامَنَتْ بِهِۦ بَنُوٓا۟ إِسْرَآٰءِيلَ}؟ أخشى أن يضطر لتنشيط ذاكرته، ويقول ما قالته الصحفية الأمريكية!!! وللحديث بقية ...