لم تكن صحفية الواشنطن بوست تبالغ عندما قالت: إن سقوط مقار أمن الدولة بأيدي المصريين أهم من سقوط مبارك نفسه.. فقد ظلَّ جهاز مباحث أمن الدولة حتى وقت انهياره مصدرًا لرعب الشعب المصري الذي كان يجفل من مجرد ذكر اسمه فضلًا عن الاحتكاك به. فمبارك الذي افتقد إلى الإبداع والخيال السياسي الخصب في إدارة شئون الدولة المصرية على مدار ثلاثين سنة استطاع أن يبني دولة بوليسيَّة فاقت الدول الشموليَّة الاستبداديَّة التي عرفتها أوروبا في فترة ما بين الحربين العالميتين، وخاصة النموذج النازي الألماني والفاشي الإيطالي. فقد اعتمد مبارك على أجهزته الأمنيَّة اعتمادًا كليًّا في إدارة شئون الدولة المصرية ومن أهمها جهاز "مباحث أمن الدولة" والذي عهد إليه إدارة الشأن المصري الداخلي من تعيين "الخفير" النظامي في قرى مصر إلى اختيار رئيس وزرائها مرورًا بمرشحي المجالس البرلمانيَّة والمتقدمين لشغل الوظائف الحكوميَّة والتدخل في الشأن الجامعي الخاص بتعيين المعيدين وعمداء الكليات ومقدمي البرامج التليفزيونيَّة ورؤساء تحرير الصحف والمجلات والمبعوثين للخارج. وبالجملة فقد كانت كل أمور الدولة المصريَّة موكولةً إلى جهاز أمن الدولة والذي استطاع أن يتغلغل في أرجاء الدولة بشكلٍ أثار الفزع من الطريقة التي كانت تُدار بها مصر على مدار العقود الماضية ودفعت قطاعًا عريضًا من الشعب المصري إلى التساؤل عن طبيعة هذا الجهاز. من "قسم المخصوص" إلى "مباحث أمن الدولة" رحلة طويلة استغرقها "جهاز مباحث أمن الدولة" للاستقرار على اسمه الحالي ففي عام 1913 وفي ظلّ الاحتلال الإنجليزي لمصر تَمَّ إنشاء جهاز للأمن السياسي، لتتبع الوطنيين والقضاء على مقاومتهم للاحتلال، سُمي "قسم المخصوص"، ويعدّ أقدم جهاز من نوعه في الشرق الأوسط، وقد استعان الإنجليز في إنشائه ببعض ضباط البوليس المصري، وتولى إدارته لأول مرة اللواء سليم زكي حكمدار القاهرة، الذي كان مقربًا من المحتل، وبعد توقيع معاهدة 1936 تشكَّلت إدارتان للقلم السياسي، واحدة للقاهرة والأخرى للإسكندرية، بالإضافة إلى "قسم مخصوص" يتبع السراي مباشرةً، ويرأسه قائد البوليس الملكي، ولم يكن لوزارة الداخليَّة أية ولاية على هذا القسم، حيث كان قائده يتلقى أوامره مباشرة من الملك. وعلى الرغم من التغيرات الجذريَّة العميقة التي قامت بها ثورة 23 يوليو في شتى مناحي الحياة المصريَّة، إلا أنه، وهو الأمر المذهل، ظلَّ كثير من آليات عمل القلم المخصوص مستمرَّة، واعتنقها الجهاز النظير الذي أقامته حكومة الثورة في أغسطس 1952 تحت اسم "المباحث العامة"، ثم أعاد أنور السادات بعد انفراده بالحكم تسميته "بمباحث أمن الدولة"، ثم تغيرت لافتته إلى "جهاز مباحث أمن الدولة"، وأخيرًا سمي "قطاع مباحث أمن الدولة". ظلت وظيفة ومهام رجل أمن الدولة من دون تغيير يُذكر في كل العصور واستمرَّت آليات عمله من دون تغيير يذكر، اللهم إلا إضافة المزيد من الصلاحيات والسلطات والتغوُّل على كل مؤسسات الدولة، انتقاصًا من حقوق المواطنين وانتهاكًا لحرياتهم الأساسيَّة. وصار تقليدًا معتمدًا في الدولة المصريَّة أن قيادات أمن الدولة عندما تنتهي من عملها بجهاز أمن الدولة تنتقل لتولي مناصب سياسيَّة مهمَّة كوزراء ومحافظين ورؤساء هيئات ومصالح حكوميَّة، فقد تولَّى وزارة الداخلية من أبناء جهاز أمن الدولة اللواء عبد العظيم فهمي، وممدوح سالم (وزيرًا للداخلية ثم رئيسًا للوزراء) وسيد فهمي، وحسن أبو باشا، وأحمد رشدي، وحبيب العادلي، كما عيّن اللواء صلاح سلامة رئيس الجهاز الأسبق محافظًا لمحافظة كفر الشيخ بشمال دلتا مصر، كما كان اللواء عادل لبيب محافظ الإسكندرية المستقيل حديثًا أحد كبار الضباط في مباحث أمن الدولة، ويعتبر اللواء حسن أبو باشا وزير الداخليَّة المصري (1982 – 1984) أحد أبرز الذين تولَّوْا رئاسة الجهاز في وقت سابق ويُنسب إليه كثير من أعمال التطوير والتحديث داخل الجهاز الذي ينصبُّ عمله في المقام الأول على جمع المعلومات وتحليلها ورفع التقارير الأمنيَّة للقيادة السياسيَّة لاتخاذ القرار، ولكن الذي حدث في العقود الأخيرة أدى لتحول الجهاز إلى حماية "مبارك" بصفة شخصيَّة، مما ساهم في تغول الجهاز في صورته الأخيرة التي أثارت الرعب والدهشة في قلوب قطاع عريض من الشعب المصري خاصة بعد أطنان الوثائق التي تم العثور عليها في مقار أمن الدولة التي تم اقتحامها بعد استقالة حكومة الفريق أحمد شفيق، مما أدى إلى حالة من الجدل حول أهميتها وأهمية السماح بنشرها. وثائق أمن الدولة بين الوهم والحقيقة لم تكن الوثائق التي تم العثور عليها (أو أريد للمقتحمين أن يحصلوا عليها) إلا جزءًا يسيرًا من ملفات عديدة لم يتم الإشارة إليها أو الحديث عنها.. فقد جرت في الأيام القليلة السابقة لاقتحام مقار أمن الدولة عمليَّة فرم وحرق لمئات الأطنان من الملفات التي لم يعرفْ طبيعتها بعد وإن كان الكثيرون يعتقدون أنها لن تخرج عن النطاقات التالية: 1- ملف الفساد الخاص ببعض الشخصيات النافذة في مصر والتي لم تشرْ إليها أصابع الاتهام حتى الآن بشيء مادي ملموس يمكن أن يتسبب في مساءلتها قانونيًّا، كملفات الفساد المتعلقة بصفوت الشريف الأمين العام السابق للحزب الوطني ورئيس مجلس الشورى السابق ووزير الإعلام الأسبق لمدة ثلاثة وعشرين عامًا وأحد الذين ساهموا بقوَّة في إفساد الحياة السياسيَّة في مصر على مدار عقود ثلاثة، ويقف معه في نفس الخندق زكريا عزمي رئيس ديوان رئيس الجمهوريَّة، والذي كان بمثابة الذراع الأيمن لمبارك طيلة حكمه، وأيضًا فتحي سرور رئيس مجلس الشعب السابق، والذي تولَّى رئاسة المجلس لمدة عشرين عامًا ساهم خلالها في إسكات صوت المعارضة وتمرير العديد من التشريعات التي خدمت دائرة الحكم الضيِّقة المحيطة بمبارك وعائلته، كما أنه ساهم بجهدٍ وفير في إهدار أحكام محكمة النقض ببطلان عضوية المئات لعضوية المجلس نتيجة أعمال التزوير التي كانت تشوب العملية الانتخابيَّة.. فكل هذه الملفات وغيرها لم يتم العثور عليه، وقد كشفت التحقيقات التي تجريها النيابة العامة في مصر مع سبعة وأربعين من ضباط وأفراد أمن الدولة الموقوفين على ذمَّة قضية إحراق وإتلاف ملفات ومستندات هامة عن مفاجآت مذهلة، حيث أكَّد المتهمون أن عمليات الإعدام كانت تتم ل «ملفات محددة» دون غيرها، موضحين أن الملفات التي كان مطلوبًا إعدامها كان مدونًا عليها أسماء مسئولين سابقين كبار مثل «صفوت الشريف، رئيس مجلس الشورى المنحل، وزكريا عزمي، رئيس ديوان رئيس الجمهورية، وحسين سالم، رجل أعمال، وعاطف عبيد، رئيس الوزراء الأسبق، وجمال عبد العزيز، سكرتير رئيس الجمهورية". ملفات الاغتيالات السياسية التي تمت في مصر على مدار العقود الثلاثة والتي طالت العديد من المعارضين لمبارك، وخاصة من المنتمين للتيار الإسلامي ولعلَّ أشهر هؤلاء ماجد العطيفي الذي تم اغتياله عام 1988م عندما كان يسير في شارع الجلاء بوسط العاصمة القاهرة، وكان محسوبًا على التيارات الجهاديَّة، وأيضًا اغتيال المتحدث الرسمي للجماعة الإسلاميَّة المصرية د. علاء محيي الدين 1992 أثناء سيره في أحد شوارع محافظة "الجيزة" وكانت الشرارة الأولى لاندلاع قتالٍ دام سنوات طويلة بين الجماعة الإسلاميَّة ونظام مبارك.. كما قتل عرفة درويش أثناء إلقائه لخطبة الجمعة في أحد مساجد مدينة ديروط بصعيد مصر برصاص أحد القناصة من خارج المسجد، مما ساهم في إشعال الموقف بين الجماعة الإسلامية والأمن المصري في صعيد مصر.. وغير ذلك من ملفات الاغتيال التي طالت هاربين في الحقول والمزارع ثم جرى تكييف القضية على أن القتل جاء نتيجة مواجهات بين المقتولين وقوات الأمن.. فملف الاغتيالات السياسيَّة كان مملوءًا بالعديد من المفاجآت وأيضًا المساءلات، وهو ما جرى إخفاء ملامحه وطمس معالمه بعناية واقتدار. 2- ملف التعاون الأمني مع الولاياتالمتحدة الأمريكيَّة في مكافحة ما يسمى ب "الإرهاب" وهو الملف الذي تمت الإشارة إليه منذ سنوات على استحياء، حيث كانت تتم عمليات نقل للمقبوض عليهم من أعضاء تنظيم القاعدة لصالح المخابرات الأمريكيَّة إلى أراضي بعض الدول العربيَّة ومنها مصر؛ لانتزاع الاعترافات حمايةً للأراضي الأمريكية من تدنيسها بأعمال التعذيب، وكما يقول الكاتب المصري سلامة أحمد سلامة في جريدة الشروق المصرية 9/3/2011: "وبينما كانت دول الغرب تنأى بنفسها عن استخدام أساليب الاعتقال والتعذيب في سجونها وعلى أراضيها، فقد عملت على نقل مسرح عمليات التعذيب والملاحقة إلى الدول العربية والإسلامية، حتى لا تستخدم أراضيها في عمليات منافية للعدالة والقانون وحقوق الإنسان. 3-وكانت مصر والأردن وسوريا واليمن والعراق والمغرب وتونس والجزائر من أوائل الدول التي سمحت باستخدام أراضيها لاستقبال المشتبه فيهم والتحقيق معهم وإكراههم بوسائل غير قانونية على الإدلاء باعترافات ومؤامرات لحساب المخابرات الأمريكيَّة، وأقيمت لذلك مقار أمنية بمساعدة أمريكيَّة، محاطة بجميع إجراءات السرية وتقنيات التعذيب وانتزاع الاعترافات بالصدمات الكهربائيَّة وغيرها من الوسائل، ولهذا ازدهرت صناعة التعذيب وتشييد السجون والمعتقلات في أماكن بعيدة لا تخطر على قلب بشر". ولعلَّ هذا التعاون هو الذي دفع الرئيس أوباما –بحسب ما نشره موقع ديبكا الإسرائيلي– إيفاد وزير دفاعه روبرت جيتس عشيَّة اقتحام مقار أمن الدولة على وجه السرعة لمحاولة إيقاف تداول وثائق خاصة بأمريكا وتضرّ أمنها القومي!! 4-الملف الطائفي وهو أكثر الملفات مفاجأة وإثارة حتى الآن إذ يكشف –حال ثبوت صحة ما يتداول بشأنه– عن تطور نوعى في العمل الأمني بمصر وتحوله من العمل المؤسسي إلى العمل السري الشبيه بمؤسسات الجريمة المنظَّمة.. إذ تفيد الوثائق القليلة المسرَّبة ضلوع وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي في تفجير كنيسة القديسين؛ فإحدى الوثائق (تداولتها وسائل الإعلام المختلفة) التي صدرت عن مكتب وزير الداخلية منسوبة إلى "التنظيم السياسي السري"، تحدثت عن تكليف القيادة رقم 77 بتاريخ 2 12 2010 الخاص ببحث إمكانية "تكتيف الأقباط وإخماد احتجاجاتهم المتتالية، وتهدئة نبرة البابا شنودة في خطابه مع النظام" تقدم صورة واقعية للدور المشبوه الذي كان يمارسه هذا الجهاز الرجل الأول المسئول عنه، فقد اقترحت الوثيقة أن يتم تنفيذ عمل تخريبي ضد إحدى الكنائس الكبرى بالقاهرة (بمعرفتنا)، ثم نقوم بإلصاق تلك التهمة أثناء التحقيقات في أحد القيادات الدينية المسيحية التابعة للكنيسة عن طريق جعل جميع تحريات المعمل الجنائي والنيابة العامة تتجه نحو القيادة القبطيَّة، ثم نطلع البابا شنودة على نتيجة التحقيقات السريَّة، ونفاوضه بين إخماد الاحتجاجات القبطية المتتالية على أتفه الأسباب وتخفيف حدة نبرة حديثه على القيادة السياسيَّة، وعدم تحريض رعاياه الأقباط على التظاهر بالاحتجاج، ودفعه نحو تهدئة الأقباط للتأقلم مع النظام العام بالدولة، وإما إعلان قيام القيادة الكنسية بتدبير الحادث وإظهار الأدلة على الملأ أمام الرأي العام الداخلي والخارجي لتنقلب جميعها على الكنيسة، وذكرت الوثيقة أنه إزاء ذلك "من المؤكد أن البابا شنودة سوف يمتثل للتهديد، وسوف يتحول موقفه إلى النقيض، بما يضمن تهدئة الأوضاع تمامًا" الخطة بالطبع نفّذت في كنيسة "القديسين" بالإسكندرية، حيث حدث تفجير كبير أثناء خروج المصلين من احتفالهم في الكنيسة برأس السنة الميلادية الجديدة، مما أدى إلى مقتل 21 شخصًا. الملفات السابقة تمثل قمَّة الأولوية للمجتمع المصري، وهي ملفات في مجملها غائبة حتى الآن، إذ إن ما تم العثور عليه لا يعدو كونه سجلات للمتعاونين مع جهاز أمن الدولة في الإعلام والثقافة والقضاء والأحزاب والتنظيمات السياسيَّة والإسلاميَّة... إلخ ومع أهميتها البالغة إلا أن معظم هذه الأسماء كان معروفًا من ذي قبل، كما أن مجرد الاتصال بهذا الجهاز الأمني لا يعد تعاونًا كما يظن كثيرون ممن لا يعرفون خبايا الحياة في مصر؛ إذ كان جهاز أمن الدولة هو المحرِّك تقريبًا لكل أوجه الحياة السياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة والتعليميَّة والإعلاميَّة والصحية والنقابيَّة، بعد أن تم تهميش الجهاز الإداري الطبيعي للدولة المصريَّة. إنها قصة طويلة لن تنتهي بين يومٍ وليلة.. وقد تتضاءل بجوارها وثائق ويكيلكس الأصليَّة!! المصدر: الاسلام اليوم