ما سقط من "شجرة الظلم والفساد"حتى الآن لا يعدو أن يكون بضع غصون وورقات، ولا تزال الشجرة قائمة على أصولها، نخشى أن تُينع من جديد إذا غفلت جماهير الثورة أو ظنت أنها قد أنجزت ما أرادت.. ويحذرنا التاريخ من أن الثورات تواجه دائمًا بثورات مضادة تحاول أن تقتلع ما تحقق من مكتسبات شعبية روتها دماء الشهداء. إن من تم التحقيق معهم أو طلب تجميد أموالهم أو منع سفرهم لا يزالون يمثلون قلة قليلة من منظومة الفساد التي سادت في العهد البائد، فماذا عن بقية المجرمين؟ لماذا لم يتم التحفظ عليهم؟ لماذا يتركون حتى يخفوا الأدلة التي تدينهم والأموال التي نهبوها؟. لا نريد إقامة محاكم تفتيش لكل الشعب، ولا أن يتحول المواطن إلى مذنب حتى تثبت إدانته، ولكن هناك أشخاص معروفون، وقضايا فساد معروفة، وملفات جاهزة كانت معدةً ليستخدمها النظام البائد وقت أن يريد الانتقام ممن اختلف معه في أمر يخص الفساد المشترك فيما بينهما. ولماذا التركيز حتى الآن على بعض صور الفساد المالي؟ وماذا عن جرائم القتل والتعذيب والسجن والاعتقال والفساد السياسي؟ أخشى أن يكون هذا التباطؤ متعمدًا، فقد انتشر الفساد وطال قطاعات كبيرة من المسئولين في مختلف أجهزة؛ ومنهم من ينبغي أن يقوم بدوره في جمع الأدلة وتقديمها لجهات التحقيق، ومنهم من يتولى التحقيق، ومنهم من يجلس على منصة القضاء. أقول هذا وأؤكد على أن الثورة قد أسقطت المقدسات الزائفة التي حالت دون الحديث عن الفساد الذي انتشر في قطاعات معينة منها المؤسسة القضائية. فالمؤسسة تستمد احترام الشعب لها بالتزامها الصارم بالقانون، أما حين ينحرف بعض رجالها تحت ضغط الترغيب والترهيب فلن يكونوا فوق مستوى الشبهات. ولا ننسى - كما لا أنسى أنا شخصيًا- أن نيابة أمن الدولة كانت على الدوام الذراع القانونية لمباحث أمن الدولة لحبس المعارضين احتياطيًا، وأذكر أن رئيس النيابة الذي نظر يومًا في أمر حبسي احتياطيًا لم يسألني سؤالا واحدًا يستدعي تجديد الحبس الاحتياطي، ولكنه قال لي: "باين عليك مزعلهم". يقصد مباحث أمن الدولة. كما أن النائب العام عبد المجيد محمود الذي يشرف على التحقيقات الآن يتحمل وزر المظالم التي ارتكبتها نيابة أمن الدولة بحق السجناء السياسيين في عهده. سقطت بعض أوراق شجرة الظلم والفساد، وقد لفتت الانتباه ورقتان على وجه الخصوص، كان في سقوطهما عبرة وعظة: حبيب العادلي؛ الذي عمل في مباحث أمن الدولة ثم رأس جهازها، ثم تولى وزارة الداخلية، فكان أحد أكبر طواغيت العصر، أخذه الله – كفرعون- في يوم زينته؛ يوم 25 يناير الذي كان يومًا لوطنية الشرطة فحوله العادلي ليوم جبروت الشرطة واستعلائها على الشعب، وقد اعتاد أن يحشد في هذا اليوم كل أعوانه بزيهم العسكري ليوقعوا الرهبة والمهابة في نفوس الشعب، ويجرجر رئيسه الذي لا يكاد تحمله ساقاه ليكيل المديح والثناء على المجرمين. العادلي الذي انتهك الدستور وداس على القانون واستهزأ بأحكام القضاء، وقتل وعذب، وسجن واعتقل، وزور الانتخابات، وخرب الحياة السياسية، وحول شعار الشرطة – وعملها- إلى "الشرطة والشعب في خدمة سيادة القانون"، أي في خدمة النظام الظالم. العادلي الذي فعل ذلك كله وأكثر منه مما يضيق المجال لسرده ليبقى في منصبه، ها هو يصبح متهمًا ويدخل السجن. سبحان الله.. سبحان من يغير ولا يتغير. سجن العادلي الأبرياء فدخل السجن مذنبًا. حول الأبرياء إلى نيابات ومحاكم أمن الدولة فمثل أمامها ذليلا . افترى على عدد من رجال الأعمال من الإخوان المسلمين، واتهمهم زورًا بغسل الأموال، للتنكيل بهم ومصادرة ثمرة عملهم الحلال، فوجهت له النيابة تهمة غسل الأموال. أرسلهم إلى نيابة الأموال فمثل أمامها، وكشفت التحقيقات تربحه الحرام. ودخل العادلي –حسبما نشر- سجن مزرعة طرة، وهو السجن الذي لا يزال به إثنان من ضحاياه: خيرت الشاطر وحسن مالك. فالحمد لله الذي يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.. الحمد لله الذي يمهل ولا يهمل.. الحمد لله القائل "إنا من المجرمين منتقمون" (السجدة 22). لكن ما جرى للعادلي حتى الآن غير كاف. فهو لم يحاسب إلا عن جريمة واحدة يشترك معه فيها الآف إن لم يكن ملايين ممن أفسدهم نظام مبارك، الذي كان فاسدًا ومفسدًا في الوقت نفسه. ويبقى أن يحاسب العادلي عن بقية الجرائم، وأن يحاسب كل من أعانوه؛ وهم كثيرون؛ من سياسيين وإعلاميين سكتوا عن جرائمه وهللوا له، وأعوانه في أمن الدولة الذين كانوا أداة بطشه وظلمه. ومن المستغرب أن يبقى جهاز أمن الدولة كما هو لا يمس حتى الآن، ولم نسمع عن إقالة ضابط واحد منه! ولا نفهم هذا الصمت المريب بشأن الجهاز الأول المسئول عن القمع والقتل والتعذيب والفساد السياسي، وعن المذابح التي ارتكبت بشأن ثورة 25 يناير. هل تتخوف السلطات منه لأنه أشبه ب"الدفينة"؛ وهي أفعى شديدة السمية تختبئ في الأرض، حتى إذا داسها أحدٌ بقدميه لدغته، وسمها سريع الانتشار لا يصلح معه إلا بتر الجزء الملدوغ لإنقاذ الإنسان؟ إذًا دعوه للشعب وهو قادر على مواجهته، وبذل التضحيات من أجل تخليص البلاد من شروره. ولا يقتصر فساد الداخلية على أمن الدولة، فالغالبية العظمى من المنتسبين للوزارة بمختلف رتبهم تركوا وظائفهم الأساسية وتحولوا إلى جمع الأموال، كلٌ بطريقته؛ من اللواء الكبير الذي يعرف كيف يهبر، إلى الجندي البسيط الذي يمد يده. وقد بدأت الوزارة حملة لتحسين صورتها، أخشى أن تكون بابًا لهدر الأموال العامة ما لم تسبقها تغيرات حقيقية في سلوكيات الأفراد، واعتقد أن أول اختبار للداخلية أن يأتي على رأسها وزير سياسي من خارج سلك الشرطة، فإن رفضوه فلن نصدق الداخلية في كلمة مما تقول. أحمد عز: قبل أسابيع قليلة انتفش الطاووس الصغير ونشر ريشه مزهوًا بانتصاراته التاريخية في انتخابات مجلس الشعب المزورة، وتحول "الطبال السابق" إلى مفكر كبير وكاتب عبقري يسوق لنا بالأدلة كيف استطاع بعبقريته الفذة وتخطيطه الرائع أن يسقط كل رموز المعارضة. لم يكن عز وجمال وصفوت وهلال وغيرهم مطمئنين يومًا كما كانوا بعد فعلتهم الشنيعة في الانتخابات بعد أن ظنوا "أنهم قادرون عليها"، ومع ذلك فقد "أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا". دخل عز السجن في تهمة تتعلق بالفساد الاقتصادي، لكن جرائمه في هذا المجال كثيرة ومتعددة ومتشعبة، ولابد أن يحاسب عليها جميعًا، فضلا عن دوره في إفساد الحياة السياسية. وبقي أن نفتح ملف فساد الحزب الوطني، وأن يحظر نشاطه. اقترح أن تبادر الجهات المسئولة بفحص الأوراق والمستندات الموجودة بمكاتب كبار المسئولين ورجال الأعمال قبل التخلص منها، وأن تنبثق عن الثورة على وجه السرعة لجنة أو لجان شعبية تتجمع عندها ملفات الفساد ويتولى محامون مقتدرون فحصها، وتقديم الجدي منها لجهات التحقيق. كما أن لدى الصحافة الكثير من قصص الفساد الموثقة مما يصلح أن يكون بلاغات للنيابة العامة. [email protected]