الانبهار ثم الذوبان. هذا هو حالنا على أرض الواقع. ليست هناك مؤشرات جادة للانتقال من حالة الانبهار إلى حالة العودة إلى الجذور. حالة من الغفلة تجتاح أمة قوامها الآن مليار وأكثر من نصف مليار مسلم، نقلها في الماضي القريب المنهج القرآني من رعي الغنم إلى رعي البشر، فانتقلوا مع المنهج من عبادة الناس – وغيرهم أيضا – إلى عبادة رب الناس فسادوا وعظم شأنهم حتى تنبه عدوهم فدبر لهم ومع استغراقهم في الترف المرفوض شرعا – سقطوا في بئر بلا قاع وأيضا بلا درج لمخالفة المنهج. والغفلة داء أصاب الأمة الكبيرة على اتساعها – ولا أقول قطر من الأقطار. الأمة بكاملها مصابة بداء الغفلة إلا من حالات فردية خاصة جدا على المستوى الفردي شكلها المنهج القرآني. يوم أن قرأت الأمة قرآنها وسنتها وعملت بما جاء فيها سادت وغلبت وتمكنت بقوة منهجها وليس بقوة عتادها وسلاحها فهو يأتي بعد قوة اليقين مع ضرورة وأهمية إتمامه على النحو المطلوب شرعا. لقد تمكن الصهيونية من بسط نفوذها بقوة بعث أساطير وخرافات وأباطيل وضعتها موضع التقديس للعمل بها كمنهج والأمة صاحبة المنهج الرباني الخالص بشقيه أصبح من (التراث!!!) الذي يجب أن ينظر إليه من باب النقد وهل يقبل أو لا يقبل ! لذا أصبحت الأمة في ذيل الأمم. مصبية كبرى أن نضع كتاب ربنا تعاظم وارتفع وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم خلف ظهورنا وأصبح للغفلة سطوة كبيرة على العقول والنفوس. هل يمكن أن نعتمد على فلسفة ول ديورانت، نيتشه، وأوجست كونت، وسارتر، وغيرهم من المهازيل ونترك كتاب ربنا وسنة نبيه ؟! لا يعقل مطلقا أن يكون الاعتقاد القلبي فقط هو الدين ! إنها مأساة تحياها الأمة دون أدنى شك ولا يمكن أن يكون تفاعلنا مع القرآن الكريم فقط بقراءته في المناسبات الدينية ! هذا جهل فاضح وأمر منكور، القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة هما معا منهج عمل المسلم من بداية يومه إلى نهايته لا منهج معه إطلاقا. يقول أستاذنا الدكتور محمد السيد الجليند في كتابه (قضايا الفكر الإسلامي) عن مستويات الإيمان إنها: أ- الاعتقاد القلبي ب- العمل السلوكي ج- اليوم الآخر أين عقولنا إذن ؟ ليس هناك ما يسمى الاعتقاد القلبي وكفى. إنه خطر داهم. ويقول أستاذنا الكريم أيضا: "وما نجده في واقعنا المعاصر يختلف تماما عما كان عليه جيل الصحابة والتابعين، حيث تحول اهتمام المسلمين بالقرآن إلى ممارسات شكلية وأعمال مظهرية ليس لها أثر في سلوك الفرد، ولا في تشكيل وجدان الأمة، لقد انصرف اهتمام المسلمين بقرآنهم إلى مجاهدات مضنية في التلاوة وضبط مخارج الحروف بين حلقي وشفوي ولهوي، ومجاهدات مضنية في كيفية الغن والمد المتصل، والمد المنفصل، وما إلى ذلك مما يتصل بالمحافظة على شكل الكلمات القرآنية متلوة على اللسان، أما محاولة الفهم والتأمل وتحويل معنى الآية إلى واقع يعيشه المسلم، فهذا قد انصرفت عنه جهود الأمة حتى حل بها ما هي فيه" ص 292 من كتابه (قضايا الفكر الإسلامي) لقد انصرفت جهود الأمة عن تحويل الكلمات القرآنية إلى واقع نعيشه واكتفت بقراءة القرآن وتجميل أصواتها به ليرتفع الإعجاب بالقارئ ويرتفع معه الأجر والتصفيق وفي نهاية الأمر يخلد الجميع إلى النوم اللذيذ ! إنها الغفلة كما قلنا ولا حول ولا قوة إلا بالله. وينتهي أستاذنا الكريم إلى أن هناك خلل في صلتنا بكتاب الله ويقول سيادته: "إن الاعتقاد النظري ما لم يتحول على يد أتباعه إلى سلوك وعمل فلا فائدة منه، ولا فائدة له في المجتمع، ولذلك نجد القرآن الكريم لم يذكر الإيمان منفصلا عن العمل الصالح أبدا وكان في كل موارده يذكر العمل قرينا للإيمان لأنه عنوانه ومظهره" ص 270. ويقول أيضا: "إن الربط بين العقيدة ومقتضاياتها تخلق لدى المسلم إحساسا قويا وشعورا متدفقا أن كل عمل يقوم به في حياته اليومية هو عبادة لله وهم من صميم الإيمان ليستقر في ذهنه المجتمع كله أن الإسلام دين ودنيا وليس عقيدة نظرية قاصرة على الاعتقاد والقلب دون سند لها من العمل والسلوك" ص 270. ولما كان الإسلام رسالة حضارية من غير شك، هدفها الرقي بحياة الإنسان وإخراجه من البداوة إلى المدنية، إن الحضارة التي يريد الإسلام إقامتها ليست كغيرها من الحضارات الأخرى التي عنيت أكثر ما عنيت بالجانب المادي من الحياة، والجانب الجسدي والغريزي من الإنسان، واللذات العاجلة من الدنيا فجعلت الدنيا أكبر همها ومبلغ علمها، ولم تجهل لله مكانا مذكورا في فلسفتها ولا للآخرة مجالا في نظامها الفكري والتعليمي، وهذا بخلاف حضارة الإسلام، فقد وصلت الإنسان بالله، وربطت الأرض بالسماء وجعلت الدنيا والآخرة، ومزجت الروح بالمادة، ووازنت بين العقل والقلب، وجمعت بين العلم والإيمان وحرصت على سمو الأخلاق، حرصها على الرقي المدني، وكانت بحق حضارة روحية مادية، مثالية واقعية، ربانية إنسانية، أخلاقية عمرانية، فردية جماعية، كانت حضارة التوازن والوسطية التي قامت عليها امة وسط كما وصفها الله سبحانه وتعالى. والسؤال الذي يفرض نفسه إلى متى هذا الغياب ؟! متى نرى مفردات منهجنا تعمل في قلوبنا لكي تعمل في واقعنا الأسيف. والحمد لله على كل حال.