إذا كان منطق كلاوزفيتز: أن الحرب استمرار للسياسة بوسائل أخرى، فإن مشكلتنا في مصر أننا جعلنا من السياسة استمرارًا للحرب بوسائل قذرة. وإذا كانت كل الحروب -إلا القليل منها- ينتهي بالتفاوض، فبقدر رشادة أصحاب القرار بقدر ما يكون الدخول مباشرة في التفاوض دون الحاجة إلى خوض غمار الحروب. ما أقل المعارك التي تنتهي بالضربة القاضية، أو بالسحق الكامل للخصم، والقضاء النهائي عليه. وما أكثر المعارك تنتهي بالتفاوض والصلح (والصلح خير) وأنصاف الحلول، وتقديم التنازلات من كل الأطراف. فكرة القضاء الكامل على الخصوم هي فكرة: خرافية: لأنه لا يمكن تحقيقها في عالم الواقع. وعبثية: لأنه لا وجود لها من قبل حتى يمكن تصورها عمليا. مصر في أزمة حقيقية، وفي صراع يصر الطرفان على تصويره بأنه صراع وجودي، لذا يعمل كلاهما على زيادة حدة الاستقطاب وتعميق الفجوة بين مكوناته. وهو تفكير قاصر وعليل: أما أنه تفكير قاصر، فلأنه لا ينظر أبعد من موقع أقدامه. وهو عليل لأنه نتاج حالة مرضية لا يمكن البناء عليها أو اتخاذها مرتكزا للانطلاق في رسم أبعاد المستقبل. مصر في أزمة حقيقية، وفي صراع يصر الطرفان على تصويره بأنه صراع وجودي، لكنه مهما طال الصراع فلا حل له إلا بالتفاوض، والجلوس على الطاولة أيا كان شكلها: مستديرة أو مستطيلة. والأولى: تتكافأ فيها الأطراف، وهو غير حادث في حالتنا. والثانية تبدأ من حيث انتهى صوت الرصاص، وتعبر عن حالة اختلال واضح في ميزان القوى. هذه حقيقة يقبلها كل من لم يصبه مرض الانكار. ستبدأ المفاوضات – شئنا أم أبينا- على طاولة مستطيلة. مع العلم وللتاريخ: كانت المفاوضات قبل سبعة أشهر وتحديدًا قبل فض اعتصام رابعة تدور حول طاولة مستديرة: تتكافأ فيها قوى الأطراف على الأرض، وكان يمكن الوصول لحلول وسط لا تراق فيها الدماء. المعركة مستمرة، ولن يستطيع حتى الطرف الأقوى حسمها بالوسائل التقليدية، ولو استمرت مائة عام. صحيح أن الطرف الأضعف خانه تقدير قوته وقوة خصومه على الأرض، وعاش حالة استنساخ لتجارب سياسية سواء في مصر أو في دول أخرى (البرازيل وفنزويلا) لا يمكن تكرارها. إلا أنه في الحقيقة خسر، وهو لم يخسر فقط من أرواح أعضاءه، بل الخسارة الحقيقية خسارة صورته الذهنية في المجتمع: سواء إمكانية العودة للعب دور الحكومة. أو حتى لعب دور المعارضة الوطنية الشريفة، بعد عمليات التخوين الممنهجة (حتى لو كانت كذبًا، أو شائعات لم تثبت، أو دعاية سوداء). كان أسوأ ما في معركة السبعة أشهر الماضية أنها أديرت بمفاهيم صراع مختلفة: ففي حين كان يديرها الطرف الرسمي بعقل عسكري مخابراتي. كان الطرف غير الرسمي يديرها باعتبارها معركة سياسية في المقام الأول. وهذا الذي جعل خسائره في الأرواح وفي أصوله الاعتبارية فادحة بل وتعاظمت (وأقصد بأصوله الاعتبارية: رمزية الجماعة وكيانها، الحزب المعبر عنها، الجمعيات الخيرية التابعة لها أو التي تديرها وإن كانت تابعة لمؤسسات أخرى- المدارس التي تمتلكها أو يملكها بعض رموزها- الأموال في البنوك التي باسم كبار أعضائها أو المؤسسات التابعة لهم). كان اختلال قيم الصراع بين: من يتحرك باعتبارها معركة حربية مخابراتية: يكون فيها أو لا يكون، تسمح له منظومته القيمية بارتكاب أي فعل، واستخدام أي وسيلة: نظيفة كانت أو غير. ومن يدير المعركة بعقل سياسي غير محترف: يتوقع فيها سقف معين لحركة خصومه. واستحالة قيام الخصوم بأفعال معينة (فض اعتصام رابعة بالقوة). أو إمكانية عودة الرئيس حتى وإن كان صوريا. أو استنساخ تجارب في مرحلة مختلفة. أو القياس على دول أخرى، وإن كان قياسًا مع الفارق الشديد. التفاوض هو السبيل الوحيد لحل المأزق المصري حتى وإن طال أمد الصراع: فالصراعات الاجتماعية الممتدة مفاهيمها تختلف عن مفاهيم إدارة المعارك الحربية المخابراتية. والصراعات الاجتماعية الممتدة مفاهيمها تختلف عن إدارة المعارك السياسية الحزبية الضيقة. التفاوض أو تهيئة الأجواء الداخلية له (سواء داخل الدولة وأجهزتها الإعلامية، أو داخل الطرف الأضعف وأجواءه التنظيمية والتربوية) هو السبيل الوحيد للحفاظ على الكيان (الوطني المصري أو الجماعي الإصلاحي). قد يخسر هذا الطرف أو ذاك، إنما استمرار المعركة هو الخسارة الأكبر. وتحتاج الدولة أن تبذل مجهودًا كبيرا، فقد شيطنت خصومها لدرجة يجعلها منكشفة إذا قررت التفاوض أو الصلح ولو جزيئا، وهذا من خطل العقل الاستراتيجي الذي أدار المعركة فهو مَنْ هون من قوة خصومه، ورسم لهم معركة وهمية جعلهم يتجرؤون على خوضها، وعلى الخوض في الدماء. ويحتاج الطرف الأضعف أن يبذل مجهودًا أكبر، فقد كاد أن يكفر خصومه، أو جعلهم على شفا التكفير، وبرر عنفا مسلحًا ليس من منهجه أصلا. التفاوض هو الحل الأقل كلفة للطرفين سواء على الصعيد الاستراتيجي أو على المدى القريب. التفاوض هو السبيل الوحيد، قد يكون مؤلمًا أن تجلس مع من تتصور أنهم قتلوا جنودك أو حرضوا على قتلهم، إنما الأشد ألما أن يستمر نزيف دمائهم. التفاوض هو السبيل الوحيد، قد يكون مؤلمًا أن تجلس مع من تتصور أنهم قتلوا إخوانك، إنما الأشد ألمًا أن يستمر نزيف دمائهم. هذا هو صوت العقل والحكمة. أما صوت التهور والاستخفاف بالخصوم، فقد جربناه سبعة أشهر، ولم نجن منه سوى: سيلا من الدماء. وأشلاء من الجثث.