أكتب هذه العبارات وأنا في أشد حالاتي اضطرابا حيث أشعر تارة بالحزن علي عجزي عن المشاركة في صنع حدث تاريخي من أهم أحداث التاريخ بعد أن أفنيت عمري في البحث في وثائق التاريخ تلمسا لأحداثه . وأشعر بالفرح الغامر لأنني وأنا في خريف العمر أعايش حدثا فاق توقعي في توقيته وكنت أظن أنه قد يأتي بعد جيل أو جيلين وليس بهذه القوة والعظمة . فلكوني أعيش كمؤرخ علي تلمس حقائق الماضي لم أكن أصدق أن الحاضر سوف يكون تاريخا، تاريخا مبهرا يصنعه جيل كنت وغيري نظنه جيل الكافيهات والسطحية والأغاني الهابطة والملابس اللاصقة. وكان كل أملي مع غيري من أساتذة التاريخ الغير مسيسين أو مزيفين نري أن مهمتنا هي محاولة استنهاض هذا الجيل من خلال سرد بطولات حتى ولو كان بعضها مزيفا أو مشوها عساها أن توقظ من كنا نظن أنهم في نوم عميق، ولم أكن أعلم أننا نحن من مخلفات جيل أحاطه اليأس وأقعده العجز وحاصره الخوف. بل إن الإحساس باليأس قد دعانا إلي الاستهزاء وتثبيط الهمم عساها تكون أسلوبا آخر للإثارة، فنتبادل سرد ألوان المذلة من بناء الأهرام وشق القناة وبناء السد إسهاما في عظمة محتكري وسالبي العظمة من شعب بخل عليه الجميع بالعظمة . كنا نسفه أحداثا اختلقها بعضنا كي نملأ تاريخنا الوطني حتى ولو بالزيف، فنصور محمد علي بأنه باني نهضتنا ونتناسى أنه أذلنا واحتقرنا واستبد بنا واستولي علي أرضنا ومقدراتنا لصالح بطانته من اليهود ولصالح أسرته، وقبلنا من خدعنا من أن النهضة هي شق الترع والتوسع الزراعي التي نسميها الآن بالبنية التحتية حتى ولوعلي حساب كرامة شعب وأن النهضة لا تبني علي أجساد عجاف . وتأخرت عليه الثورة حتى أيقظها جيل عرابي ورفاقه فأسندوها إليه وهي ثورة شعب وليست ثورة عسكر، ونسينا أن البنية التحتية هي عرق شعب ولا ينبغي أن تكون منة من أحد عليه. وبعد وقوع مصر تحت الاحتلال تأخرت الثورة عليه إلي 1919 وسلبها قادتها وهم لم يشاركوا في صنعها وحولوها إلي صالحهم من خلال أضحوكة اللجان والمفاوضات فضاعت بهم دماء الشهداء. وتأخرت الثورة عليهم حتى وجدت سبيلها في تأييد الانقلاب العسكري 1952، فأرضوا الشعب الثائر بالفتات وجعلوا منه حقل تجارب، وانحصر دورهم الثوري في مصالحهم، ودفع الشعب ثمن طموحهم وجموحهم، ولم يبق من تجربتهم سوي حزب ينزوي في مسكن ضئيل يسكنه بعض التائهين ويافطة كاذبة تربط بين التجربة الفاشلة وبين ادعاء الديمقراطية التي دفنت علي أيديهم . من هنا كان اضطراب الأفكار والمشاعر عندي، وبالتأكيد عند غيري، بين التوبة والنصح والتحذير. التوبة من أنني غلبني البكاء حين ألقي رئيس الدولة خطابه فتمنيت كرد فعل أن نتحلى بالرحمة والرأفة التي تعلمناها من نبينا حين انكسر أبو سفيان بن حرب . لكني استشعرت ضرورة أن أعود إلي رشدي حين انهمرت عيناي وكل أهل بيتي وجيراني أمام صور شهداء الشباب الأبرياء الأنقياء الذين اغتالهم أعداء العدل والحق والحرية والإنسانية. وأما النصح فمن التاريخ المصري، ففي أعقاب الحرب الأولي تمكن الإنجليز من تسويق زعامة مصرية يمكنهم تطويعها للتحدث باسم الثوار كما تحاول أمريكا وإسرائيل اليوم من تسويق كوادر تهبط بالباراشوت من قصورها في أوربا ولا تعرف معاناة أهل شبرا ، وفتح الإنجليز لهم طريق السفر إلي مؤتمر فرساي ، وطال انتظارهم في فرنسا لأشهر طويلة أنفقوا خلالها علي نزواتهم ما جمعوه من فقراء مصر، ثم عادوا بخفي حنين إلا من خدعة كبري هي المفاوضات واللجان والتفاهم، وخدعوا الناس بدستور 1923 لا يحتوي علي حق واحد للثوار الفلاحين أو العمال وإنما خلص إلي حماية مصالح أصحاب القرار الذين سرقوا الثورة وجلسوا علي كراسي السياسة . فضاعت دماء الشهداء باللجان والحوار والمفاوضات، وتمكن الذين امتطوا الركب الثوري من كل شئ ، وامتلأت بهم مصايف أوربا وقصور العزب والتكايا والأبعديات . أما ثوار أيرلندا الذين ذهبوا إلي نفس المؤتمر فرفض زعيمهم ديفاليرا المشارك مع رفاقه في صنعها أن يذهب إلي فرساي وأرسل من ينوب عنه وظل مرابطا في موقعه وموقفه بين رفاقه إما تحقيق المطالب أو استمرار الثورة فكان له ما أراد وتحررت بلادهم . أما التحذير فهو في البداية من أساليب الإعلام الذي تتولاه كوادر أعدت كي تكون كالحرباء تتلون بكل لون ويلعبون علي كل حبل ويأكلون علي كل مائدة، وأقرب إلي وصف الشعراء في القرآن يتبعهم الغاوون ألم تري انهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون مالا يفعلون . فبالأمس كان الإعلام الحكومي ومعه المعارضة المستأنسة يصفقون لرموز النظام، ويأخذون من ذلك ما يحافظ علي تعاليهم علي الناس في غير موقع ولا موضع ولا أحقية للتعالي ، فتتمايل أجسادهم وبخاصة العنصر الناعم وتتمايل معها عباراتهم النفاق المستهجنة من كل الناس . ويختذلون في برامجهم الشعب بكل تاريخه وكوادره ونضاله في لقاء فنان قد لا يعي ما يدور داخل بيته، ولا عب كرة مستفز بسطحيته، ومطرب وجاهل وعازف و...ولم لا وهم الذين تعودوا علي لقاء الوزراء والمدراء وصناع القرار في برامجهم وتسويقهم بعبارات جوفاء كاذبة ، ثم يقضون مصالحهم الآنية من خلالهم . ووصل الأمر بكوادر إعلامنا المرئي والمسموع والمكتوب إلي حد التقعر في التنظير مع فنانين غير مؤهلين وتطويعه قسرا لمشاكل مجتمع متناسين الكتاب الذين سرقوا منهم فكرهم وأن ضيوفهم مجرد مشخصين لا دراية لهم أو جرأة علي الخروج علي النص، ولا شخصية لهم حيث يذوبون فيمن يشخصون . ناهيك عن كتاب النفاق والتلفيق والتزوير الذين يبحثون عن تبرير لتبعيتهم ونفاقهم وجهلهم وسلبهم لأموال الناس صاحبة الحق في صحفهم . لقد وصل أهل الإعلام كأهل النظام السياسي إلي حد التأله والاستبداد والدكتاتورية التي تستوجب ثورة لذاتها، فالمذيع الذي يذيع ما يملي عليه يقرأ الصحف لزميل له إعلامي، ثم يستدعي إعلامي ثالث ليفسر ما قرأ ويستغرق في التفسير كأنه فقيه زمانه يقرأ ما لا يأتيه الباطل من تحت يديه ولا من خلفه، حلقة مفرغة يدور فيها المستبدون دون اللجوء إلي أهل المعرفة التي يعيشون علي فتاتهم وفتاتها، ويتباهون بانفرادهم بالفهم، وقد يزركشون لقاء بواحد من أهل العلم فيبدوا مدى فضلهم عليه، ويحددون مسار ما يمكن أن يقوله ، واحتكروا السبيل إلي تصحيح مسارهم لأنه لن يكون إلا من خلال وسائل يحتكرونها، ونسوا أن وسائل احتكاراتهم هي من أموال الفقراء ، وأنهم جزء من الاستبداد السياسي الذي ثار الشباب من أجل تصحيحه . وهناك تحذير آخر من رجال الأمن بكل كوادره، صحيح أن بينهم الأنقياء والشرفاء ، وقد يكون ذلك من مخلفات الخوف والفزع المسيطر علي جيلي ، لكن منهم الكثير ممن يتصفون بعدم الرحمة والرأفة والأمانة . واتصف أغلبهم بالتعالي حتى أصبحوا يؤثرون علي نمط العلاقات الاجتماعية فالأسرة التي يكون فيها أحد كوادرهم تأخذ نصيبها من تملق غيرها وتقربهم أو الخوف والتهديد والفزع . وأصبح كل شئ خاضع لرأيهم وتقاريرهم بدءا من خفير القرية وشيخ البلد والعمدة والمأذون، وامتدادا إلي المعيدين والعمداء ورؤساء الأقسام ورؤساء الجامعات ونوابهم، وحتى الطلاب في الاتحادات. والتحذير من كل من يعمل في المحليات من مهندسي الأحياء والمحلات ، الجميع أوجدوا صيغة ثابتة وواضحة ومبررة للرشوة ، فأفسدوا كل شئ . لقد تكاتف هؤلاء جميعا علي زيادة حجم البطالة، ووجد فيها النظام ضالته في تطبيق قانون "جوّع كلبك يتبعك" . فلو تصورت أن الجهات التي تحاصر أي مشروع صغير يحاول الشباب من خلاله البحث عن مخرج تزيد علي ثلاثة عشر فخا من أجهزة الدولة تتبادل وتتناوب علي السلب والنهب، فالبداية هي الضرائب التي تبدأ بالمعاينة ثم استخراج البطاقة وعليك أن تحدد زمنها بما يجود به جيبك وألمعيتك ، ثم الدفاع المدني ، ثم مهندس الحي ، ثم الأمن الصناعي ، ثم مكتب العمل ، ثم التأمينات الاجتماعية ، ثم المرافق العامة ، ثم مهندس اللوحات ، ثم هيئة النظافة والتجميل ، ثم الكهرباء والمياه والصرف الصحي ، ثم أمناء شرطة الأقسام ، ثم شرطة المرافق ، ثم إغلاق المشروع بعد تبدد رأسماله المقترض من البنك ، ثم السجن أو الإدمان ، ثم البديل الرائع الذي وجد طريقه من الآن الثورة وميدان التحرير . بعد ذلك يجب أن نقول أنه لن تخيل علي الثوار فخ الخلاف الطائفي أو التخويف من المحظورة، ولن يخيل عليهم تطويع فريق منهم لاستخدامه في هيصة الضعف حتى تعود قوة التمكن ، أثق أن الجميع تعلم الدرس ، أثق في أن الثوار قد أزهلوا الدنيا بفكرهم العالي والمنظم . أثق أنهم يعلمون أن ثورتهم فاقت ثورة فرنسا التي لم يزد عدد ثوارها عن 10 في المائة من السكان ، وثورة الخميني التي زادت عن 11 في المائة ، فثورتهم بلغت ما يزيد علي 15 في المائة وحطمت كل المقاييس . اللهم اقبل توبتي، ويسر قبول نصحي وتحذيري، وتقبل دموع مسن مثلي حاصره المرض وأقعده عن المشاركة في أنبل حدث في تاريخ مصر. * مؤرخ مصري