بينما تعلو أصوات المتظاهرين في ميدان التحرير، طالبة رحيل الرئيس مبارك فورا، كانت طاولة الحوار بين نائب الرئيس عمر سليمان وممثِّلي قوى سياسية متنوِّعة، تشهد جدلا ومطالب عدّة حول الخروج من الأزمة التي تعصف بالبلاد. وبينما يرى البعض الأمر تناقُضا بين مطالب إسقاط النظام وعملية الحوار السياسي مع أحد أبرز رموز النظام الجديد - القديم معا، وهو عمر سليمان، يراه آخرون مشهَدا يؤسِّس لمصر جديدة تنفض عن نفسها مظاهر السلطوية وتبدأ أولى خطوات الحرب ضد التسلطية والفساد السياسي. وسواء كان الأمر تناقضا أو مفارقة أو بداية جديدة، فهناك بالفعل عملية سياسية بدأت تدور رحاها، وهناك بالفعل مناخ سياسي عام، أقل ما يمكن وصفه أنه مختلف بدرجة كبيرة عمّا كانت عليه مصر قبل 25 يناير الماضي، وهو مناخ فرَض نفسه بفضل تضحيات الشباب وشجاعتهم وصمودهم أمام قوى عديدة، تمثلت في قوات الداخلية أولا وعناصر "البلطجة" ثانيا وسوء أداء الإعلام الرسمي والحكومي ثالثا، فضلا عن فلول النظام التي ما زالت موجودة تنتظر الفرصة للإنقضاض على أي خطوة إيجابية تحقق مطالب المتظاهرين وتعيد بناء مصر، وِفق معايير الحرية والديمقراطية. أهم مظاهر العملية السياسية بدت هذه العملية السياسية في أكثر من مظهر. الأول، وهو الأهم تقريبا، تمثَّل في قيام نائب الرئيس الجديد بعقد عدّة لقاءات مع ممثلى قوى سياسية مختلفة، من بينها عناصر شبابية، فضلا عن ممثلين لجماعة الإخوان المسلمين، استمع خلالها لتصوّرات الحل المختلفة وناقش فيها بعض البنود المُمكن تنفيذها فورا، وِفقا للأصول الدستورية وليس خروجا عنها. أما المظهر الثاني، فتمثل في وجود أكثر من لجنة حكماء أو مجموعة تشكّلت تطوعيا من شخصيات عامة حاولت أن تبني جسرا بين نائب الرئيس ورئيس الوزراء المكلف من جهة، والمتظاهرين من جهة أخرى، وأن تقدم أطروحات للخروج من الأزمة، تضمَّنت بالدرجة الأولى المطالب التي رفعتها مجموعات الشباب التي تظاهرت في ميدان التحرير وخرج منها قوافل الشهداء، وما زالت تتحمّل عبء الصمود في الميدان. أما المظهر الثالث، فهو مجموعة قرارات أصدرها الرئيس مبارك بصفتيْه، مرة كرئيس للجمهورية ومرة أخرى كرئيس للحزب الوطني الحاكم. وكرئيس للجمهورية، كان القرار الأهم، هو تفويض نائب الرئيس عملية تعديل الدستور والحِوار مع القوى السياسية. وكرئيس للحزب الوطني، كان القرار الأهم هو، قبول استقالة أو إقالة عدد من أبرز شخصيات هيئة مكتب الحزب، ومنهم صفوت الشريف وجمال مبارك وزكريا عزمى ومفيد شهاب وعلي الدين هلال، وتعيين شخصية إصلاحية، طالما تم تهميشها في الفترة السابقة وهو د. حسام بدراي، كأمين عام للحزب وأمين لأمانة السياسات التي كان يرأسها جمال مبارك، وطالما نُظر إليها كآلية من آليات سيطرة نجْل الرئيس على جموع المثقفين والباحثين والناشطين السياسيين، تمهيدا لتمرير مشروع توريثه السلطة خلفا لوالده. وهذا القرار تحديدا، يصُبُّ في محاولة إحياء الحزب الوطني، وفق أسُس ومعايير جديدة تنفض عن نفسها كل سِمات البُؤس السياسي التي ارتبطت بالحزب في زمن قيادة صفوت الشريف، وهو الذي يُعَد أحد رموز إفقار وتخريب الحياة السياسية والحزبية والإعلامية والصحفية المصرية للعقود الثلاثة الماضية. وفي الخلف من كل ذلك، جاءت قرارات النائب العام بحظر سفر عدد من الوزراء السابقين وتجميد أرصِدتهم والتحقيق مع البعض منهم في بلاغات مختلفة، قدمها مواطنون وسياسيون، دارت كلها حول سوء استغلال السلطة والتربح من ورائها وإهدار المال العام. الثقة المفقودة ثمة تغيّر إذن في سلوك النظام وسلوك الرئيس، لكن عنصر الثقة في أن مطالب المتظاهرين سوف تعبُر الطريق إلى الضفة الأخرى من النهر وسوف تتحول إلى حقائق ملموسة يشعُر بها كل مصري، يبدو غائبا. فالشكوك كبيرة - من كل القوى السياسية تقريبا - في أن تتم الاستجابة إلى مطالب المتظاهرين بكل شفافية وصِدق، كما أن بعض الشكوك تبدو أكبر في أن الرئيس مبارك قد يفى بتعهده العلنى بالخروج من السلطة نهاية شهر سبتمبر المقبل. وهناك مخاوف المتظاهرين، لاسيما الشباب الذين لعِبوا دورا قياديا في الفترة الماضية في أن يُعتقلوا أو يتعرّضوا لسوءٍ من قِبل أجهزة أمنية ما زالت تعمل بنفس الآليات القديمة أو من قِبل جماعات خارجة عن القانون، تعمل لحساب جهات غيْر معلومة، ولكنها تابعة للنظام القديم وتحرِص على تعطيل الخروج من الأزمة، نظرا لما يحمله أي تطور سياسي من أضرار على مصالحها، وربما على وجودها ذاته. مشكلات بناء الثقة فقدان الثقة، جزء منه يعود إلى تاريخ طويل من الوعود الكاذبة التي استمرأها النظام بكل مؤسساته ورموزه لسنوات طويلة، ويعود إلى ممارسات فجّة من التزوير والاتهامات الباطلة لكل وطني غيور على بلاده، ويعود أيضا إلى سوء أداء الإعلام الرسمي لفترات طويلة ودفاعه المستميت عن ذوي المصالح والنفوذ، دون رادع من أخلاق أو قيم، وهي ممارسات لا يوجد الكثير بعدُ على تغييرها جِذريا. وحتى إذا كانت هناك نية للتغيير ومُراعاة مطالب الشباب الثائر وبعض خطوات بسيطة أولية تحقق شيئا من التغيير، كالتي تم اتِّخاذها بالفعل، تظل هناك مشكلة الضمانات التي تحُول دون التراجع عن تلك المكتسبات لاحقا، والضمانات الأخرى التي تسهم في تشكيل قوة دفع إصلاحية تحمي نفسها بنفسها. معضلة الثقة المفقودة تفسِّر بعض مواقف التردّد التي أبداها الإخوان المسلمون قبل الشروع في اللحاق بالحوار مع نائب الرئيس، كما تفسِّر أيضا الحذر الذي تُبديه القوى السياسية المختلفة، في أن يصل الحوار إلى نتائج مُرضية، وتفسِّر أيضا خوف كثير من الشباب الثائر في ميدان التحرير من الخروج من الميدان، حتى ولو لغرض شراء الطعام والاحتياجات الأساسية. غير أن قيام القوات المسلحة بتأمين المتظاهرين في ميدان التحرير، كما حدث في الأيام الثلاثة الماضية والإفراج عن عدد من المعتقلين الشباب ومشاركة عناصر شبابية في الحوار مع نائب الرئيس، تعطي جانبا آخر لم تعهَده مصر من قبل، وربما يخفف فجوة غياب الثقة لاحقا، لاسيما إذا ما استمرت عملية تطبيع الحياة اليومية للمصريين جنبا إلى جنب مع استمرار المتظاهرين في تمسكهم بالبقاء في ميدان التحرير، دون أن يتعرّضوا إلى سوء. معضلة رحيل الرئيس أما التحوّل من حالة تخفيف فجوة الثقة إلى حالة تعزيز الثقة، فسيكون مرهونا بنتائج الحوار نفسه وبالمخارج التي سيصل إليها لأكبر معضلة ما زالت تحدّ من الشعور العام بأن هناك تغييرا كبيرا حدث في مصر، وهي معضلة رحيل الرئيس مبارك، وهنا نجد رؤى كثيرة لهذا الرحيل: أولها، الرحيل البدني وحسب، ومنها الرحيل الرمزي ومنها الرحيل السياسي الكامل. ويقابل ذلك طلب تفويض السلطات من الرئيس لنائبه الذي بات محلّ رهان البعض من القَوى السياسية لتأمين تغيير حقيقي وشامل. ومن خلال نتائج الحوار الأولية، تبدو معضلة رحيل الرئيس كليا غيْر مقبولة، لا من المؤسسة العسكرية ولا من نائب الرئيس ولا من رئيس الحكومة، والأسباب المطروحة تمزج بين أسباب تشريعية ودستورية وأخرى رمزية. فالأسباب التشريعية تحتم بقاء الرئيس في منصبه ليصدق على قرارات مهمة تتعلق بالتغيير المطلوب ذاته، ومنها قرارات التصديق على حلّ مجلس الشعب والشورى، وقرارات تعديل الدستور وقرارات دعوة المواطنين للاستفتاء على هذه التغييرات، بعد التوصل إليها وقرارات التصديق على هذه التعديلات الدستورية، إن قبلها الناس، وقرارات تتعلق بتنظيم الانتخابات الرئاسية المقررة في سبتمبر المقبل. فكل هذه القرارات، حسب الأصول الدستورية المعمول بها، مرهونة بالرئيس وغير قابلة للتفويض لنائبه أو أي شخص آخر. أما الأسباب الرمزية، فهي رفض المؤسسة العسكرية إهانة الرئيس مبارك من خلال دفعه للرحيل قبل إتمام مدّته الدستورية كرئيس للبلاد وكقائد أعلى للقوات المسلحة، باعتباره أحد رموز نصر أكتوبر التاريخي. مساومات مركبة هاتان المجموعتان من الأسباب، ربما أقنعت المتحاورين مع نائب الرئيس على أن بقاء الرئيس مرحليا، مسألة مهمة لإتمام التغييرات المطلوبة، ولكنها لم تقنع المتظاهرين بعدُ، ولذا، يبدو الرهان هو أن تستمر عملية مركَّبة من أربعة عناصر، وهي استمرار المساومات السياسية البنّاءة والإعلان عن خطوات معقولة أولا بأول، من قبيل الاتفاق من حيث المبدإ على تشكيل لجنة من فقهاء القانون الدستوري وممثلين للقوى السياسية لصياغة التعديلات الدستورية، وثانيا، بقاء المتظاهرين في الميدان تحت حماية الجيش يرفعون ما يحلو لهم من شعارات ومطالب. وثالثا، تطبيع الحياة اليومية للمصريين واستعادة الأمن رُويْدا رُويدا. وأخيرا، إحداث تغييرات في منظومة الإعلام الرسمي، تتوافق مع الزلزال الذي أصاب مصر في الصميم. إنها عملية مركّبة، كل عنصر فيها يدعم الآخر ويستند إليه، تعبِّر عن محاولة للخلاص والعبور إلى بر الأمان، أما نتائجها الكلية، فتظل - إلى حد إعداد هذا التقرير - في عِلم الغيب. المصدر: سويس انفو