تظل العلاقة بين المفكر والسياسة من العلاقات التى تستدعى التأمل والدراسة و الفهم .. وتكاد تكون اغلب تجارب المفكرين في ممارسة السياسة أو الاقتراب منها تجارب غير موفقة فى ابسط التوصيفات.. وليس بعيدا عنا تجربة الدكتور الترابى فى السودان والذى يعده البعض من اكبر المفكرين الاسلاميين وله فى السياسة تجارب موحلة .. وأهم منه الاستاذ الشهيد سيد قطب .. والذى يعد كتابه عن العدالة الاجتماعية من الدراسات الرائدة فى هذا المجال .. وتاخذنا السلسلة الى الشيخ الامام و استاذه جمال الدين و الاستاذ العقاد و الدكتور عبد الرحمن بدوى و الدكتور محمد حسين هيكل ....البعض ادرك نفسة وانتبه الى ان هناك ثمة توافقا غريبا فى التاريخ ان المفكر دائما فى (اقصى المدينة ) يقف على تخومه البعيدة يشيروينصح ..يفكر ويتأمل تأملا بعيد القرار بخيال ملىء بالرؤى النورانية المبسوطة على طول المدى... واذا ادلهمت الامور ( جاء يسعى ) .. فينسى الناس يأسهم و يعللهم بالامل الفسيح الذى قصروا فى الذهاب الية ان كانوا يا ئسين ويكفكف دمعهم ان كانوا باكين و يندى كأبتهم ان كانوا مكتئبين.. ويرويهم الحكمة و يفهمهم الحياة ومعانيها .. لكنه فى اغلب الاوقات بعيدا عن الشوارع والاسواق و الميادين التى يتزاحم فيها الناس ويتدافعون .. الاشرار منهم والاخيار ..العقلاء منهم والسفهاء.. الفضلاء منهم والاراذل .. تاركا الاشتباك بهذة الدنيا لتلاميذه وخلصائه يتناوشون فيها مع الخبثاء والطائشين والاقوياء و المغامرين والذين يرون لذة الحياة فى جهل الكثير من الاشياء .. كما كان يقول توماس هاردى.. سيأخذنا هذا الحديث فيما بعد الى جماعة الاخوان المسلمين و الدور الذى يأملة لها الكثيرون باجتناب الاشتباك المباشر بدنيا السياسة و دهاليزها الملتوية فى كل الاحيان.. وقد قال لى المستشار طارق البشرى ان الاستاذ البنا كان ينوى نقل الملف السياسى بأكمله الى المرحوم فتحى رضوان .. ولعل هذه المقولة الاخت الشقيقة لمقولة اخرى مثلها فى الاغفال والتناسى .. تؤيدها و تدعمها ومنسوبة للاستاذ البنا ايضا نقلها عنة الشيخ محمد الغزالى رحمه الله وهى (لو استقبلت من امرى ما استدبرت لعدت بالجماعة الى ايام المأثورات ...) هذه مقدمة ذات صلة اقدمها بين يدى الحديث عن صاحب (المقدمة) الاشهر دائما عبد الرحمن بن خلدون .. ولعل نموذج بن خلدون المولود في تونس سنة 1332 م من اوضح النماذج التى تجسد حالة المفكر الذى اوحلته السياسة .. فقد قدم للتراث الانسانى اروع دراسة في علم العمران والاجتماع مع مقدمة اكثر روعة في التاريخ .. مع سيرة ذاتية من اجمل الاعترافات والكتابة عن الذات .. وهى الدراسة التى لم ينتجها الا بعد ان كف واعتزل مدة 4 سنوات في قلعة ابن سلامة على ضيافة اصدقائة من بنى عريف قرب مدينة قسطنطينة الجزائرية حاليا .. كان وقتها في الخامسة والاربعين سن النضج ورجاحة العقل والاتزان ووفرة العطاء العقلى .. بعد ما يقرب من 23 عاما في معاقرة السياسة بكل ما فيها من مؤمرات و ألاعيب و ألتواءات .. ان تكون طموحا فهذا من دلائل احترام النفس وصونها و معرفة قدرها .. وهى مسافة دقيقة تلك التى بين (اعرف قدر نفسك ) فيستحق صاحبها رحمة الله كما انبأنا النبى الكريم صلى الله علية وسلم وبين ( انا خير منه ) التى استحق قائلها لعنة رب العالمين ....على ان صاحبنا لم ينهنه عن طلب و لم تعطة الايام ما تمنى .. وحادت منه وعنه اغلب الاغراض و ليس غرضا واحدا كما كان يقول (المعرى ).. فسجن وعزل وابعد و تأمر وتلاعب و داهن وتملق و تقلب فى صداقات وعدوات لا تعرف ثباتا و لا استمرارا .. اختلطت الامور على صاحبنا بين المقولتين السابقتين مع توافر كل دواعى الغيرة والحسد من شخصية معتدة الى بيان ومنطق الى طموح فى السحاب .... كان عمرة 22 عاما وهو القريب المقرب من أبى عنان اعظم سلاطين المغرب ..عينه عضوا بمجلسه العلمى و كلفه بشهود الصلوات معه .. ولنا ان نتخيل حجم المؤمرات والملاعبات حين نعلم ان هذه الصحبة انتهت بسجنه عامين ويقال ان تهمة التأمر ثبتت علية بالفعل .. وحين نعلم انة كان مغامرا لا يثبت على صداقة أو عداوة فلنا ان ننظر لهذة المقولة بجدية .. على أى حال لليالى أعاتب ؟ ** وأى صروف للزمان أغالب ؟ ....كان هذا مطلع قصيدة يطلب فيها العفو من السلطان .. فأخرجه من محبسه وطلب منه مغادرة البلاد فشد رحاله الى صديقه الكاتب والشاعر والوزير لسان الدين بن الخطيب الذى قدمه الى سلطان غرناطة محمد بن الاحمر ولقى من صديقه ومن السلطان كل حفاوة وترحاب وتوسم فية السلطان سفيرا ومفاوضا جيدا فأرسله الى أمير قشتالة لعقد صلح بينهما فحدث شىء غريب سيتكرر ثانية بنفس الظروف وينتهي نفس النهاية مع تيمور لنك القائد المغولى في دمشق.. فقد عرض عليه الامير الاسبانى الاقامة عنده و المكوث معه .. كيف يمكن فهم موقف كهذا .. ؟؟ هل هو جو الخيانات الذى كان يملأ اجواء الاندلس بشكل عام .. ام ان الامير قرأ في عين مفكرنا اسعدادا لمثل ذلك ؟؟ في كل الاحوال رفض الرجل و عاد الى غرناطة و ساء ظنه بصديقه ابن الخطيب و عاد الى المغرب ثانية . نزل على (بجاية) ووصل الى اميرها الذى مالبث ان قلده منصب الحجابة .. اعلى منصب في الدولة و تتقلب الامور على هذا الامير فيسارع صاحبنا الى تأييد القائد الجديد !!! الذى اقره على مناصبه ثم ارتاب فيه وعزله فيذهب ثانية الى الاندلس فلا يمكث فيها الا شهورا .. ويبدأ المفكر ينهض في عقل صاحبنا ويتغلب على السياسى فيذهب الى اصدقائه (بنى عريف) كما اسلفنا ويعكف على الانتاج الفكرى .. ويحن الى بلاده فيذهب الى تونس بعد 27 عاما من الاغتراب ويهدى الي سلطانها عملة العلمى الكبير و هو ينشده قصيدة طويلة .. فقربه اليه .. لكن بن خلدون لم يسترح للبقاء الى جانبه فيستأذن في الذهاب الى الحج و هو ينوى عدم العودة ثانية . تبدأ المرحلة المشرقية في حياته .. فيذهب الى مصر التى توسع لها في صدرها فيتولى فيها المناصب ويدرس في ازهرها ( تتلمذ على يديه ابن حجر العسقلانى والمقريزى) ويتزوج منها ويتملك فيها ضيعة (في الفيوم) ويدفن فيها بمقابر الصوفية عام 1399 م ..هذا هو بن خلدون المفكرالذى زاد عن السياسة وضاقت عنه السياسة ..الذى تمرد على ذاته ليستولد لها حجما كبيرا يليق به كما كان يرى نفسه لكن الزمن لم يكن مواتيا والريح لم تكن موافقة ... نموذجا مثاليا للرأى الذى ذكرناه اولا .. ولولا (كتاب العبر و ديوان المبتدأ والخبر في ايام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوى السلطان الاكبر) ما عرفناه ولا وضعناه في مكانته التى تبوأها ..وبوأه اياها العالم كله كأحد أعظم المفكرين فى تاريخ البشرية كله ... ولما سجله التاريخ الا سياسيا نازقا ومغامرا طموحا .. ويبقى السؤال و تبقى العبرة لمن يعتبر .. لماذا لا يرضى المفكر بمكانة الضمير الناصح والعلامة الهادية ؟؟ لماذا ينجذب الى السياسة و السلطة ودوائر الحكم والامر والنهى و النفاذ ..( فأصبحت من الغد وقد أمر السلطان أهل الدولة بمباكرة بابى و استقللت بحمل ملكه و أستفرغت جهدى في سياسة أموره و تدبير سلطانه) هكذا يصف بن خلدون المدة التى اقترب فيها من امير بجاية الذى لم يصن دمه بعد قتله وسارع الى التقرب من قاتله الذى بدوره ارتاب فية ونحاه ..وله الحق..على انا لا نملك الا ان ندعوا الله له بالرحمة والمغفرة .. و نحتفظ لانفسنا بكل الحق فى الفخر بأحد اروع صور الماضى الذى و لى و راح . [email protected]