الثورة في أوسع معانيها هي قيام الشعب (ونخبه الفكرية والسياسية) بتغيير نظام الحكم بالقوة عبر احتجاجات اجتماعية وسياسية متواصلة، وهي تغيير راديكالي (جذري) لنظام حكم استبدادي عجز عن تلبية طموحات الشعب واحتياجاته، فاختار الناس الخروج عليه حتى يخرج من حياتهم التي حولها جحيما: فقر وجوع وبطالة وأزمة سكن وأزمة غذاء وأزمات هي كظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج الواحد فيها يده لم يكد يراها. وما حدث في تونس حتى هروب بن علي هو "ثورة" بكل ما تحمل الكلمة من معنى، ثورة أحدثت قطيعة جذرية مع النظام السائد. أما ما يحدث منذ أن أعلن الوزير الأول محمد الغنوشي قيامه بتولّي مهام رئيس الدولة بصورة مؤقتة طبقا لنص المادة 56 من الدستور التونسي فهو "ثورة مضادة". وهو ما تنبّه له القانونيون والدستوريون في تونس إدراكا منهم أن ما يحدث هو التفاف على مطالب الناس، وأن خروج بن علي لم يكن خروجا مؤقتا إنما هو خروج نهائي وبشكل دائم، فهو قد هرب بلا رجعة وتحت ضغط الوعي المتفتح في تونس والمدرك لعواقب الالتفاف على الاحتجاجات الاجتماعية المتواصلة تم الانتقال إلى المادة 57 من الدستور التي تنظم حالة شغور منصب رئيس الجمهورية بصورة دائمة، فتولى رئيس مجلس النواب فؤاد المبزع منصب رئيس الجمهورية لحين إجراء انتخابات تشارك فيها مختلف التيارات الفكرية والاتجاهات السياسية تكون تحت إشراف قضائي ورقابة دولية، وظل كذلك محمد الغنّوشي رئيس وزراء مؤقت. لقد أدرك الشعب التونسي الواعي أن ما يحدث هو محاولة لسرقة الثورة من قبل بقايا نظام بن علي وهم الذين كان يسميهم الشعب في المظاهرات "جماعة السرّاق" التي انتقلت من سرقة أموال الدولة إلى سرقة أحلام الشعب وطموحاته في تتويج جهادهم لنظام فاسد يريد أن يرجع من الشباك بعد أن طرده الشعب من الباب وفر لا يدري إلى أين. في أحد اللقاءات التي جمعتني بمجموعة من الإخوة الكرام المهمومين بحال أمتنا وتعليقا على مقالة الأسبوع الماضي "القوانين العشر في الاحتجاجات الاجتماعية" عبر أحدهم استعظاما لصعوبة التنبؤ بمسارات حركة المجتمعات: أنه ما كان أحد يتخيل أن يحدث ما حدث في تونس قبل شهر؟ فأجبت بقين تام أن كل من قرأ بتمعن كتاب الله في الآفاق والأنفس، وأدرك سنن ونواميس الله في المجتمعات وآليات حركة البشر، يدرك أن ما حدث كان لا بد أن يحدث، فقط كان يحتاج الأمر مجرد وقت تتكثّف فيه التفاعلات، وتصل حرارة المجتمع لدرجة الغليان، ويقرر الجيش أن يكون ولاءه للشعب وليس للنظام أو ما يطلق عليه في الأدبيات السياسية "خيانة الجيش للنظام" والحق أنها ليست خيانة ولكنها "أمانة الجيش" على حقوق الناس وليس حماية النظام البوليسي الذي انتهك كرامات الناس وأهدر حقوقها وحرياتها. ولقد كتبت منذ خمس سنوات بالضبط أن تونس في طريقها للانفجار إن لم تحدث انفراجات حقيقية في تحرير الحياة السياسية من الاستبداد، والمقال كان بعنوان: تونس إلى انفراج أم انفجار، نشر في موقع المسلم على الرابط التالي: (http://almoslim.net/node/85721). وكان المقال عبارة عن تحليل لما أبداه النظام التونسي من محاولات لتخفيف حالة الاحتقان وتخفيف القبضة الأمنية بالإفراج عن (1600)، من المسجونين والمعتقلين السياسيين، وكانت قد صدرت بشأنهم أحكام تصل إلى 24 سنة أمام محاكم (مدنية وعسكرية) لم تتوفّر فيها أدنى ضمانات حقوق الإنسان بالإضافة إلى تعرضهم للتعذيب (بشكل منهجي) في مقرات وزارة الداخلية وإقامتهم في ظروف جدّ متردّية بالسجون التونسية. وقلت في هذا المقال: "إن هذه الإفراجات إما أن تكون إفراجات حقيقية تتبعها خطوات أخرى على درب الإصلاح وإطلاق الحريات وتحرير الحياة السياسية من الاستبداد، وإما أن تكون البلد مقبلة على انفجار أو وضع يذكّرنا بالانتفاضات الشعبية السابقة التي اندلعت في دول عدة عربية". وختمت المقال بالعبارة التالية: "لقد علمتنا تجارب الحركات السياسية أن المؤسسة العسكرية عندما تخون النظام الاستبدادي وترفض إطلاق النار على المتظاهرين في الشوارع والمعتصمين تحت ألوية مظلة عريضة من مؤسسات المجتمع المدني، ساعتها تؤذن شمس النظام الاستبدادي بالمغيب، وما تجربة النظم الاستبدادية في أوربا الشرقية عن ببعيد". وتقريبا كان هذا ما حدث، وأذنت شمس النظام الاستبدادي في تونس بالمغيب وذلك عندما رفض رئيس الأركان الجنرال رشيد عمّار أن يطلق الجيش النار على المتظاهرين في الشوارع كما طلب منه الرئيس، بعد أن عجزت قوات الأمن على قمع المتظاهرين. والتاريخ "لا" يعيد نفسه ولكنها سنن ونواميس وقوانين الله في الكون والخلق (في الآفاق وفي الأنفس)، "ونواميس الكون غلاّبة" كما قال الإمام المجدّد حسن البنا عليه الرحمة والرضوان. لقد تفاعلات ثلاثة أمور عملت على نجاح ثورة تونس: أولها: طبقة وسطى واعية ومتماسكة وعلى قدر كبير من التعليم والثقافة ثانيها: عمل نقابي قوي ومؤطر بشكل جيد، خاصة الاتحاد العام التونسي للشغل الذي قام بدور أساسي في تفعيل حركة الجماهير لإسقاط نظام الاستبداد. ثالثها: جيش (وقادة) لم يتحرك إلا في إطار الدستور، ورفض تنفيذ الأوامر بإطلاق النار على الشعب، فوظيفة الجيوش حماية التراب الوطني وليس قمع الناس. أكتب هذا الكلام لأني أرى محاولات حثيثة لسرقة ثورة تونس عيانا جهارا، سرقة في وضح النهار لتذهب الدماء الذكية الطاهرة التي أريقت لإحداث هذا التغيير هدرا. ما يحدث في تونس منذ هروب بن علي هو "ثورة مضادة" الهدف منها لالتفاف على ثورة الناس. والثورة المضادة هي محاولة لإعادة البلد إلى حالة ما قبل الثورة، واستعادة الامتيازات والحزب القديم إلى سدة السلطة وإن كان بأشكال مختلفة. فبعد أن ثار الناس على الحزب الذي أسامهم سوء العذاب وطردوا نظامه وهرب رئيسه من الشباك يريد أن ترجع بقايا النظام وعجائزه ليحكمهم من الباب عبر تولي الحزب مناصب: رئيس الدولة المؤقت ورئيس الوزارة والوزارات السيادية (دفاع وداخلية وخارجية ومالية). وحاولت الحكومة المؤقتة تطعيم تشكيلتها ببعض رموز المعارضة الذين سرعان ما استقالوا احتجاجًا على الوزراء المتبقين من إدارة بن علي، ذلك أن التيار الاستئصالي الذي حكم تونس عبر بوابة بن علي هو الذي يريد أن يستمر في حكمها عبر ثورة تونس التي أتت بها تضحيات ودماء. ولا يكفي طبعا في مثل هذه الحالات استقالات صورية من جهاز الحزب، ولا دعوات إعلامية لفصل جهاز الدولة عن الحزب. ولكن يظل الرهان على وعي وحكمة الشعب التونسي وعلى استعداد الشباب للمواصلة في دفع ثمن الحرية، فحتى هذه اللحظة يتوافد الناس على العاصمة لاستمرار الاحتجاج على الحزب ورموزه لمنع سيطرة الثورة المضادة. لقد علمتنا يا شعب تونس مقاومة الظلم باحتجاجات شعبية متواصلة لم يُراق فيها دم ولا حتى دم الطاغية؛ وعلمتنا حينما ظللت تقاوم الالتفاف حول ثورتك، وستعلمنا أكثر إذا نجحت في منع الثورة المضادة، وهو الاختبار الحقيقي لنجاح الثورات الشعبية. من خير الكلام: حينما يؤرخ لثورة تونس 2011 سيكتب التاريخ بحروف من نور اسم الجيش التونسي ورئيس أركانه الجنرال رشيد عمار الذين رفضا إطلاق النار على مواطنيهم في الشوارع، وهو درس قوي لقادة الأركان وجيوش دول المنطقة كلها، حتى جيش تونس علّمنا.