عندما بدأت انتفاضة الشعب التونسي قبل أربعة أسابيع ، لم يسمع أحد عن الحزب الحاكم الذي يرأسه الرئيس زين العابدين بن علي ، كانت الثورة الشعبية تتسع وتشمل شرائح المجتمع التونسي كله ، بينما قيادات وأعضاء الحزب الحاكم يختبئون في جحورهم لا يسمع بهم أحد ، وليس لهم أي وجود في الشارع ، ويتركون المجال أمام قوات الأمن للقبض على قيادات الانتفاضة والتنكيل بالمشاركين ثم ضربهم بالرصاص الحي في الشوارع ، كما يلاحظ أن الرئيس بن علي كان يخوض المواجهة مع الشعب بنفسه ، فلم يأت على ذكر لحزبه أو قواعده أو يوجه مناشدة لهم لكي يتحركوا ويتصدوا للانتفاضة ، ماذا يعني ذلك كله ؟ الحزب الحاكم في تونس ، التجمع الديمقراطي الدستوري ، كان يدعي أنه حزب الملايين ، وأن أعضاءه يصل عددهم حسب تصريحات الأمين العام للحزب إلى اثنين مليون وربع المليون عضو ، ولو صح هذا الكلام لكانت هذه الملايين قد ابتلعت الانتفاضة في أول يومين ، لكنها الأكاذيب التي درج أعوان الطغاة على إطلاقها مستغلين قهر الناس ، وامتلاكهم أدوات الدولة وجبروتها بالكامل ، ولم يظهر شيء عن هذا الحزب الوهمي الحاكم إلا في اليومين الأخيرين بعد انتصار الثورة الشعبية ، عندما ألقى الأهالي وقوات من الجيش القبض على أعضاء من الحزب في سيارات خاصة يجوبون الشوارع ليلا يطلقون النار على المواطنين ويحرضون على السلب والنهب ويحاولون بث موجة من الذعر والفوضى . هذا الحزب الحاكم ، فاز بجميع الانتخابات التي كان يخوضها في ظل "الديكور الديمقراطي" بنسب تفوق التسعين في المائة ، سواء كانت الانتخابات البرلمانية أو البلدية ، كما كان الرئيس بن علي يفوز بالنسبة ذاتها في انتخابات الرئاسة ، بما يعني أن الإجماع "المزور" منعقد طوال هذه السنين على حب هذا الحزب وزعيمه الملهم ، وروجت آلة الدعاية الرسمية التونسية عن إنجازات الزعيم ، والنهضة التي حققها لتونس والحياة الديمقراطية التي ينعم فيها التونسيون ، كما كانت دائما هناك وعود بأن السيد الرئيس سيهديها لشعبه بالمزيد من الإنجازات ، كما كانت حرمه "ليلى" حديث الفضائيات والصحف عن حنانها واستنارتها وإسهاماتها العميقة في تطوير الحياة التونسية ودعم الثقافة والفنون وحقوق المرأة ، ومع الأسف الشديد ، وصلت هذه الموجة من الدعاية السوداوية إلى مصر ، حيث حصلت بعض الصحف الحكومية المصرية وصحف خاصة وصحف لأحزاب معارضة على ملايين الجنيهات من السفارة التونسية في القاهرة خلال شهر نوفمبر الماضي ، مقابل نشرها أخبارا ومقالات وتقارير عن تمجيد الرئيس التونسي وتمجيد حرمه ، وغسيل السمعة القذرة ، وهو موقف لا أعرف كيف تتطهر منه تلك الصحف المصرية الآن بعد أن ضللت الشعب المصري نفسه أولا ، وتواطأت بصورة غير أخلاقية ضد آلام الشعب التونسي ومعاناته مقابل حفنة من المال الحرام . الحزب الحاكم في تونس كان يتلاعب بالدستور كل عدة سنوات حسب مزاج السيد الرئيس ، فقد عدل الدستور خصيصا لكي يسمح للرئيس بالبقاء في السلطة إلى العام 2014 ، ثم مع نهايات عام 2010 سارع قيادات الحزب بالدعوة إلى تعديل دستوري جديد يسمح لزين العابدين بن علي بالترشح للرئاسة من جديد عام 2014 ، لأن سنه وقتها لن يسمح له بالترشح حيث يصل إلى 78 عاما ، بينما الحد الأقصى الذي يتيحه الدستور التونسي هو 75 عاما فخططوا للعبث من جديد بالدستور ، وقالت قيادات الحزب الحاكم أن الشعب التونسي يناشد الرئيس البقاء من أجل مواصلة الإصلاح ، وكانت مشكلة الرئيس زين العابدين أن ابنه طفل صغير أنجبه على كبر ، فليس بوسعه أن يعدل الدستور بحيث يسمح له بتوريثه السلطة ، فكان الأقرب أن يتم تعديل الدستور على مقاس الأب وليس الإبن ، حتى يكبر الطفل فيتم تعديل الدستور من جديد على مقاسه ، وهكذا الطغاة دائما ، الدستور بالنسبة لهم أرخص من ورق الكلينكس ، وكل هذه التعديلات والتلاعبات الإجرامية تصدر عادة باسم مصلحة الشعب ورغبة الشعب ومطالب الشعب وإرادة الشعب. عندما هرب الطاغية واجهت تونس أخطر فراغ سياسي ، لأن معظم رجال الرئيس هربوا ، لأنهم يعرفون مصيرهم أمام غضب الشعب ، وحتى لو لم يهربوا ، فعادة الطغاة أن لا يبقى بجوارهم "رجال" ، وإنما خدم وسكرتارية وأشباه الرجال ، يعجز أحدهم طوال حياته عن أن يتخذ قرارا دون وجود "ظل الرئيس" في خلفيته أو توجيهاته ، فاعتادوا على أن ينظروا إلى صورة الزعيم أو خطابه أو بعض قراراته لكي يقيسوا عليها قبل أي خطوة ولو صغيرة ، فلما اختفى الرئيس عجزوا عن أن يكون لهم أي قرار ، واضطر الجيش إلى تنصيب بعض الوجوه لتسيير شؤون الدولة لحين إنجاز انتخابات جديدة حقيقية تفرز قيادة ديمقراطية لتونس . عندما اختفى الرئيس اختفى الحزب الحاكم ، ولا أحد يسأل عنه الآن ولا يعيره انتباها ، لأنه ليس حزبا في الحقيقة وإنما مجموعة من الانتهازيين والفاسدين أصحاب المصالح والمطامع الخاصة تريد أن تتعيش على بعض فتات الفساد الذي يتساقط من فم الزعيم وعصابته . [email protected]