رجعت في الأيام الأخيرة من جولة أوروبية، عبرتُ فيها البحر المتوسط إلى غرب أوروبا ومكثتُ أيامًا في بلجيكا، وأيامًا أخرى في جنيف، ثارت خواطري كالمعتاد، وأتذكر دائما بلادي وأقارن بين ما يجرى فيها وما أراه في غيرها... وأول ما لاحظته هذه المرة وقد حضرت مؤتمرين مهمين في كل من الدولتين، هو قلة عدد المصريين المشاركين في المؤتمرين، فلم نجد مقدمي أبحاث ولا أوراق عمل ولا حتى مناقشين، وهى ظاهرة تتكرر للأسف وسأكتب –بإذن الله- للسادة رؤساء الجامعات لدراسة الحالة واتخاذ ما يلزم من إجراءات. أما الملحوظة الثانية التي عاشت معي طوال رحلتي وحتى الآن، فتتصل بالجدية الكاملة التي رأيتها وأراها هناك دائما، مقابل التشوهات التي أصيب بها بلدي العزيز، والتي دائما في خاطري. ففي كل مكان أذهب إليه أجد أول شئ يتصل بعدم الاهتمام بالعمل والشكوى المستمرة من غلاء الأسعار وعدم كفاية الدخل. وبصرف النظر عن أي حساب اقتصادي لهذه القضية المعقدة والتي تعلو الأصوات بالشكوى منها في كل مكان، فإنني ألحظ العمل الجدي والمتقن في جنيف وفي أي بلد أوروبي آخر. قلت في نفسي هؤلاء الناس هم الذين صنعوا الساعات ومن الطبيعي أن تشبه حياتهم دقة أناملهم وقدرتهم على الإتقان، حقيقة أعانى من وقت الفراغ وأنا هناك، نظرا لانشغالهم الشديد بالعمل، ولكنني تعودت بالتدريج على النوم المبكر والاستيقاظ المبكر؛ لأن موعد الانطلاق إلى المؤتمر يوميا من الثامنة صباحا وموعد الانتهاء هو الثانية ظهرا، أما المحال التجارية فهى تغلق في السادسة مساء، وطوال سيري أجد لافتات كبيرة موجودة في كثير من الأماكن مكتوب عليها: " لا لزيادة ساعات فتح المحال التجارية" التكافل الاجتماعي للطبقة العاملة" سألت عن مواعيد المولات والمحال الكبرى فوجدتها هى نفس المواعيد المقررة للمحال العادية، وفي داخل المؤتمر الشعار المرفوع هو العمل ثم العمل والكل يناقش ويتكلم ويحاول الوصول إلى النتائج، والمكتبة العربية الإسلامية تعمل كذلك مثل باقي المجموعات الأوروبية، وأنا أتحدث وأناقش، ولكن غصة أن مجتمعي وأهلي لا يعملون أو لا يتعلمون بشكل كاف، تقف في فمي، وتسبب لي كثير من الضيق بسبب ما أتركه في بلدي من إهمال في كل شئ، وتضييع للوقت بلا طائل لدى غالبية الناس صغرت وظائفهم أو أعمالهم أو كبرت. تذكرت المشهد اليومي والأصوات اليومية التي تنطلق بعد صلاة العشاء من النوادي التي أمام منزلي على نهر النيل العظيم، الذي ذنبه أنه ينساب ما بين الربي في بلادي العزيزة حاملا الخير والرخاء وأسباب الحياة لى ولهذا الشعب العظيم، وإذا بهذه النوادي التي لم تعد تترك شبرا أمام النيل وعلى ضفافه دون أن تشغله وللأسف فإنها مملوكة للمسئولين عن أمننا وسلامتنا فإذا بهم يلوثون كل شئ، الماء، والهواء والسمع، وليس فقط بما يلقونه في النيل العظيم، وإنما أيضا بذلك السيل المنهمر من الأصوات الرديئة والمعاني السقيمة والألحان المؤذية، هذا الصراخ اليومي الذي لا يهدأ، والأفراح والليالي الملاح لا تنقطع كيف تنقطع والأمر يتناوبه نادى الشرطة ونادي العاملين المدنيين في وزارة الدفاع ونادي الرقابة الإدارية وبجوارهم كباريه (أكشن) تستمر الأصوات حتى طلوع الشمس؟ تضيع حلاوة النيل وجماله وبهجة الطبيعة في غمار الأصوات الفجة والموسيقى الصاخبة، والألعاب النارية تعبيرا عن الانبساط لدى فئات من الناس لا أعرف في الواقع معيار الجمال والانبساط عندها. الساهرون على هذه الأصوات والذين يتمايلون معها ثم يتشاجرون فيما بقى من الليل مع بعضهم البعض، يمثلون المنظر اليومي على نهرنا العظيم -النيل- نظير بضعة ألاف من الجنيهات تدفع من أصحاب الأعراس والساهرون على ضفاف النيل ليلوثوه، ويشوهوه، وانظر أسفل العمارة فأجد اللاعبين بالطاولة والجالسين على كراسي المقهى القريب حتى الصباح. أين ومتى يمارس هؤلاء الشباب والصبيات والشيوخ مهامهم اليومية، أين أعمالهم، واية أعمال تنجز من هؤلاء المستيقظين حتى الصباح، إنها مأساة بشرية بكل معاني الكلمة، إنه نشر للقبح باسم الأفراح والليالي الملاح. أعرف أن من بيننا وأنا معهم من يعمل ويكدح ويجد على الجانب الآخر، ولكن هذا لا يكاد يظهر حتى يزول، من الجانب الأول الذي يلوث كل شئ من الذي سيواجه بكل حزم هذه السلبيات، ومن الذي يستطيع أن يفرض نظاما وعملا على المنوط بهم تحقيق الانضباط والحرية في حياتنا؟ مصر التي في خاطري وفي دمي تتأذى وأتأذى معها وأرى أن الهبوط على مختلف المستويات هو المحصلة النهائية لهذه الحياة العابثة. والملحوظة الثالثة فهي تتعلق بهذا الجهاز المؤذى، التليفزيون، والذي يكلف دولتي الكثير نظير لا شيء، أعرف أن الإعلام مسئول عن نهضة المجتمع ، لأنه التعبير الموضوعي الذي يعكس في رسالته الإعلامية آراء الناس ومشاعرهم، ويعمل كذلك على الارتقاء بالمجتمع وتبصرة الناس بحقائق الحياة وما يجرى فيها من أحداث، ولكن التناسب بين وظيفة الإعلام الإخبارية والثقافية والفكرية؛ بل والعلمية من جانب، ووظيفة التسلية من جانب آخر، أمر مهم،و للأسف فإن هذا التناسب مفقود، والسماوات مفتوحة والموجات والترددات في سماء بلدي لا تدع وقتا للعمل الجاد، ولا للنوم حتى يمكن الاستيقاظ للعمل في الصباح، والغريب أن الكل يلتف حول هذا الجهاز و الشيء المهم فيه هو كرة القدم والأفلام والمسلسلات والباقي لا يهم كثيرا في حجرتى وأمام هذا الجهاز سواء في بلجيكا أو هولندا أو جنيف أرى العديد من المحطات وأجد نفسي استخسر النوم وأترك متابعة ذلك الجهاز، لأنه يقدم برامج هادفة وقضايا ساخنة ومهمة، وأتذكر أن الإسلام لا يسمح بضياع وقت النوم فيما لا يفيد الإنسان، فيجب أن ينام المسلم بعد صلاة العشاء وحتى ينهض لصلاة الفجر للعمل الذى يبدأ بعد الصلاة ويعبر الشاعر أحمد شوقى عن ذلك في نثر أشبه بالشعر فيقول عن الصلاة : (أصحابها هم الصابرون والمثابرون وعلى الواجب هم القادرون عودتهم البكور وهو مفتاح باب الرزق وخير ما يعالج به العبد مناجاة الرازق وأفضل ما يريد به المخلوق التوجه إلى الخالق). والملحوظة الرابعة تتصل بالنظافة وأنا أسميها الفريضة الغائبة في حياتنا، فى أوروبا عامة وفي جنيف خاصة، أراها فريضة مختفية عندنا وأرى كل عام جديد والجديد في هذه المرة عودة الترام وتقليل عدد الأتوبيسات والسيارات لأقل حد، لأنها تسبب التلوث وهو ما لا يسببه الترام، والورق البلاستيك ممنوع لأنه يسبب التلوث، وتعود إلى التعامل بأوراق الكارتون والورق العادي للتغليف لأنه لا يسبب التلوث وممنوع هبوط أو إقلاع طائرات بعد السادسة مساء لسبب تلويث الأذن !! ويتصل بالنظافة دورات المياه في أية مصلحة، المياه تملأ الحمامات، وللأسف الصالة (3) في المطار وجدتها بنفس الوضع الذي عليه حمامات المصالح والحكومة، وطبعا بعض شوارعنا تبدو كدورات المياه، لماذا؟ لا أعرف وديننا الحنيف يأمرنا بالنظافة، والوضوء والنظافة يقول رسولنا الكريم r يقول:( أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يومٍ خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟)) قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: ((فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا) (رواه البخاري) أوامر بالاغتسال والنظافة من الله سبحانه وتعالى ولا تجد صدى لهذه الأوامر، ولابد من حل بالتعليم والتربية أولا ثم بالمتابعة الدقيقة لدورات المياه والإصلاح الفوري لأي تلف فيها، خاصة وأن زمن المياه الضائعة قد انتهى ويحتاج إلى وضع حد لها بعد أن بات نقص المياه أمر يجب أن يواجه خاصة أمام نوادي الشرطة والقوات المسلحة والنوادي الأخرى، وأجرى مقارنة بين من يوفر الماء من الأنهار والأمطار، في أوروبا ويحرصون على كل نقطة مياه. والملحوظة الخامسة تتصل بالزحام الشديد الذي بات يحيق القاهرة على وجه الخصوص، البلد تبدو قلقة تماما في معظم أجزاء اليوم لم يعد يتقبل بفصل دون فصل أو شهر دون شهر إلا من علاج لهذه الظاهرة. المثقفون العرب يستغيثون ببلادنا عندما شاهدوها في القرون الماضية جميلة نظيفة تخلو من الزحام ويتذكرون كيف كانوا يمشون وسط القاهرة بجمالها وبهجتها إلى مناطق الجمالية ، الحسين وخان الخليلي والغورية، أما الآن فلا يستطيعون السير بسهولة من الزحام. هناك مجلس وزراء ومجلس شعب ومجلس شورى ومحافظ للقاهرة ورؤساء أحياء ووزارة بيئة ووزارة وظيفتها الضبط الإداري بعناصره المعروفة أي الأمن العام والصحة والسكينة العامة، وللأسف فإن الاعتداء على هذه العناصر جميعها يصدر من هذه الوزارة.. ألم تناقش هذه المخالفات من أية وزارة أو من أية هيئة في بلدي؟ لماذا لا نتخذ عاصمة جديدة في الرمال التي نراها من أية طائرة تسير فوق القاهرة؟ ألا يمكن أن تنفذوا وعداً برحيل الوزارات إلى المدن الجديدة وقد رأيت بنفسي في مدينة السادات أماكن أعدت للوزارات وهي الآن ننفق عليها اليوم ولا أحد يشغلها؟ لماذا لا نأخذ هذا الأمر بمأخذ الجد؟ والله عندما أجد بناء شاهقاً يرتفع وما أكثرها اليوم من المباني الحكومية الجديدة، ترتعد فرائصي، ماذا سيكون من جديد يضاف إلى ما تعاني منه هذه المدينة السكنية؟ أقارن ما أراه في بلدي العزيزة وما أراه في بلدان أخرى من تحديد للارتفاعات وتنظيم رائع للمباني، بالفوضى التي تعم بلدي الحزينة من هذه المباني، فأحزن وأتحدث بعد ذلك عن المرافق (الكهرباء والماء والصرف الصحي)، فأجد ظاهرة جديدة في بلدي هي مغالاة الأجهزة المسئولة عن هذه المرافق في الأسعار، وفي أجور التركيبات والمبالغة في إعطاء مقابل لكل عمل يعمل حتى أن وزير الكهرباء أعطى مكافأة لمدة شهر مرة واحدة لمن يعملون في هذا المرفق، ورغم الشكوى من قلة المرتبات في الدولة بشكل عام، نجد أن هؤلاء العاملين يطالبون بمبالغ كبيرة عن عملهم وكأنهم في بلد آخر ولامعنى هنا للحديث في الحد الأدنى للأجور ولا عن الحد الأقصى بالطبع، فقد نسينا حكاية الحد الأقصى وأصبح الذي يستطيع أن يأخذ من أي منفذ يأخذ دون رقيب ولا حسيب، ولاتحدثني عن مناقصات الجهاز المركزي للمحاسبات فهو يناقض ولا أحد يستجيب، ما دام هناك موظفون تصل رواتبهم إلى مليون جنيه شهريا، تدفعها وزارات أو مؤسسات رسمية توجد في قلب القاهرة العامرة، ولا أريد أن أكتب أكثر من هذا اليوم ولعل ما أكتبه يحمل رسائل إلى الحزب الوطني وهو يجتمع في هذه الآونة لبحث وسائل لحل مشكلات مصر. والله يوفق الجميع لما فيه خير بلدنا. أستاذ القانون الدولي بجامعة الأزهر - الأمين العام لرابطة الجامعات الإسلامية [email protected]