مضى ذلك الزمن الذي كانت فيه البرازيل لا تعرف سوى كرة القدم، وجاء الوقت الذي يمكنك فيه أن تبحث عن عقد عمل هناك!! ولم لا؟.. وقد أقرت الحكومة رفع الحد الأدنى لأجور العمال، ليصبح 316 دولارًا أمريكيًا، على أن يصل أجر أصغر عامل بنهاية العام إلى 353 دولارًا (حوالي 2000 جنيه شهريًا). إن كنا نودعك اليوم يا "لولا داسيلفا" وأنت تترك منصبك كرئيس للبلاد، فيكفيك أن ترفع رأسك فخورًا بما قدمته لوطنك، يكفيك حب الشعب لك، وحزنهم على رحيلك، وذكراك التي ستبقى في وجدانهم إلى الأبد، من حقك أن تستعد الآن لترشح نفسك لمنصب أمين عام الأممالمتحدة عام 2012، فشرعية الإنجاز هي التي حملتك كاشتراكي، لأن تتصدر المنصة الدولية، في زمن تراجع اليسار، وهي التي تكتب السيرة العطرة لسياسي قرر أن يخدم شعبه، فحوله من بلد فقير، جائع، تغرقه الديون، إلى واحد من أقوى اقتصاديات العالم، بالإضافة إلى الكثير مما قدمه لعاملنا العربي، وصنع به أفضل الذكريات، وآخرها أنه أعلن بشجاعة اعترافه بالدولة الفلسطينية المستقلة. إذا أمعنت النظر إلى اليد اليسرى للرئيس "لولا" فسوف تكتشف أن أصبعه الصغير مقطوع، وهو يفخر بأنه فقد ذلك الأصبع في حادث ماكينة، أثناء عمله بمصنع لقطع غيار السيارات، غير أن ذلك لم يكن العمل الأول في حياته، فقد عمل "لولا" في العديد من المهن البسيطة، ليتمكن من توفير لقمة العيش لأسرته، كانت طفولته قاسية، فقد تولت أمه بمفردها تربيته، مع سبعة أولاد وبنات، حيث اضطرت العائلة أن تسكن في غرفة واحدة، في أفقر مناطق مدينة "ساو باولو"، بدأ دراسته في سن مبكرة، غير أنه توقف عن التحصيل الدراسي في الصف الخامس من التعليم الأساسي، بسبب ضيق ذات اليد، الأمر الذي اضطره إلى العمل كماسح للأحذية لفترة ليست بالقصيرة، وبعدها كصبي بمحطة بنزين، ثم عمل كخراط، وميكانيكي سيارات، وبائع خضار، لينتهي به الحال كمتخصص في التعدين، وحتى حياته الزوجية لا تختلف كثيرًا عن معاناته السابقة، فقد توفيت زوجته بسبب التهاب الكبد الوبائي عام 1970، بعد زواجهما بعام واحد، واكتملت المأساة عندما خسر إصبعه في المصنع، الأمر الذي دفعه للمشاركة في اتحاد نقابات العمال، ليدافع عن حقوقه وحقوق زملائه، وقد تحقق ذلك في أوائل العشرينات من عمره عندما استطاع أن يشغل منصب نائب رئيس نقابة عمال الحديد بولاية "ساو باولو" وبدأت حياته السياسية حينما قام بتأسيس أول حزب عمالي عام 1980، لكنه اعتقل في العام نفسه لمدة شهر بسبب الإضرابات التي قامت بها النقابة العمالية، حصل "لولا" على مقعد في البرلمان في انتخابات عام 1986، ومنه دخل المنافسة على منصب رئيس الجمهورية في انتخابات عام 1989، غير أنه انهزم أمام منافسه «كولور»، ولكنه نافس مجددًا، وفشل أيضًا في الوصول لهذا المنصب الرفيع أعوام 1994 و1998، إلا أن عدم نجاحه في الانتخابات الرئاسية ثلاث مرات متتالية، لم يثنه عن التقدم للترشح مرة رابعة، حتى انتُخب رئيسًا للجمهورية في العام 2002، وعندها اعتقد كثيرون أن البرازيل قد جنت على نفسها، فهبطت أسواق المال بشدة، لمجرد فكرة قيادة رئيس يساري للبلاد، وقرر "لولا" الرد على الجميع بأسلوبه البسيط الذي يميزه، بأن ليس كل من له شعر أشعث في وجهه "شيوعي". قرر "داسيلفا" أن يبدأ برنامجًا جادًا للإصلاح والتنمية أسماه " الفقر صفر"، فمزج ببراعة بين سياسة اقتصادية تتفهم متطلبات السوق من جهة، وسياسة اجتماعية وضعها الرئيس بنفسه، حيث بدأ في استثمار أكثر من 285 مليار دولار في قطاعات النقل والطاقة ومشاريع الإسكان، بالإضافة إلى عشرة مليارات أخرى لتحسين الصحة والتعليم، وكان في غاية الذكاء عندما عين "هنريكي ميريللي" الذي كان يرأس بنك «بوسطن» علي رأس البنك المركزي البرازيلي، في إشارة واضحة إلى أنه لن يبدأ رئاسته بعداء مع البنك الدولي، وبعد أن كانت ديون البرازيل الخارجية لصندوق النقد تزيد عن 220 مليار دولار، انقلبت الآية تمامًا بعد وصوله للحكم بثلاثة أعوام، حين تمكن من سداد جميع ديونها، واحتفل البرازيليون العام الماضي بإعلان البنك المركزي البرازيلي أن الدولة أصبحت للمرة الأولى في تاريخها دولة «دائنة»، وذلك بعد أن زادت أصولها في الخارج عن ديونها الخارجية، وأصبحت اليوم تملك أكثر من 200 مليار دولار من النقد الاحتياطي. ولكن اللافت للنظر أن البرازيل تمكنت من تحقيق المعادلة الصعبة، فحققت معدل نمو اقتصادي مرتفع وصل إلى 7% هذا العام، وناتج محلي إجمالي يقارب 2 تريليون دولار، مكنها من أن تنافس على المركز الخامس كأقوى اقتصاد في العالم- حسب تقدير البنك الدولي- ولكنها في نفس الوقت تمكنت من تحقيق الرفاهية والعيش الكريم للمواطن البرازيلي، فبدءاً من العام 2003 خرج من تحت خط الفقر أكثر من 20 مليون برازيلي، وارتقى إلى مصاف الطبقة الوسطى 29 مليون مواطن، وارتفع دخل الفرد أكثر من 30%، مع ارتفاع واضح لقيمة العملة، مما يجعل زيادة الدخل حقيقية وليست وهمية، والأهم من ذلك.. أن فرص العمل قد توفرت للشباب بشكل واضح، وهو ما أدى إلى انخفاض معدل البطالة إلى أقل من 7%. كثيرة هي الدروس المستفادة من التجربة البرازيلية.. إن كان "لولا داسيلفا" قد ضرب لنا المثل في تحقيق النجاح في فترة قياسية وبإمكانيات بسيطة، فإنه في نفس الوقت قدم الدليل على أنه متى توفرت الإرادة السياسية، والرغبة الجادة في تحقيق الانجاز، وتوحدت الرؤية لدى القيادة والشعب، فلا يوجد هناك مستحيل، من شأن هذه التجربة أن تمنحنا المزيد من الأمل.. يجب ألا تجعلنا الظروف الحالية نستسلم للإحباط، وننسى أن لدينا من الإمكانيات البشرية والمادية ما يؤهلنا لنحقق نفس الإنجاز، بل ونتفوق على البرازيل. ولكن ما هي الأعمدة الأربعة التي مكنت البرازيل من تحقيق هذه الطفرة المتميزة، في ذلك الوقت القياسي؟ وكيف تمكن "لولا" من تحقيق مكانة دولية متميزة لبلاده، بالرغم من قراراته الجريئة، وعدم تبعيته للولايات المتحدة؟ هذا ما سوف نتناوله بالتفصيل في الأسبوع القادم إن شاء الله. [email protected]