في نفس الفترة تقريبا جرت انتخابات برلمانية في مصر ورئاسية في ساحل العاج وكلاهما رغم دلائل التزوير التي شابتهما إلا أن طرق وأساليب مواجهة هذا التزوير سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي اختلفت اختلافا كبيرًا. في انتخابات برلمانية لم يشكّ أحد في مصر خارج دائرة النظام أنه قد تم تزويرها على نطاق واسع، بلغ التزوير فيها معدلات لم تشهدها مصر من قبل، حتى أن الرئيس مبارك نفسه اعترف بأن الانتخابات قد شابها بعض التجاوزات، ونقول أن هذه التجاوزات بلغت حدًا أن المحكمة الإدارية العليا قد أبطلت الانتخابات في كثير من الدوائر وأن نتائجها في حكم المنعدمة، وخطورة هذه الانتخابات كما قال بعض القضاة أنها هي التي سوف تأتي برئيس مصر القادم والذي غالبا سيكون الرئيس مبارك إلا إذا كان للأقدار رأيا آخر. وفي ساحل العاج جرت انتخابات رئاسية كان حكم اللجنة العليا المشرفة عليها أن الفائز هو المعارض حسن وترا، ولم يسلّم الرئيس لا بالنتائج ولا بحكم القضاء واستقوى بالجيش الذي انحاز إلى جانبه. ونزل الناس إلى الشوارع وربما ما أجل الصراع على الأرض لحد الآن هو أن أغلب فصائل الجيش مع الرئيس القابض على زمام الأمور. من المهم فهم وتكييف أسئلة التغيير السلميّ حتى يمكن إدراك المفاتيح الجوهرية لعملية التغيير ذاتها: أول هذه الأسئلة هو السؤال الخاص بموقف الناس العاديين ومتى يبلغ سيل غضبها ذباه، ومتى تعتقد أن القادم أيا كان لن يكون الأسوأ؟ لا أتكلم عن انفجارات جماهيرية لا تدع ولا تذر أو هبّات شعبية تعبر عن الإحباط أكثر مما تعبر عن محاولة جادة للتغيير، ولكن أتكلم عن رغبة شعبية حقيقية في التغيير السلميّ عبر بوابات الحراك الاجتماعي تبدأ من رفع الصوت بالاحتجاج (والنزول جماعيا أو عدم النزول للشوارع والاحتجاب) حتى العصيان المدني (إذا توفرت شروط نجاحه وما أعقدها) مما يحسم قضية أن القابض على زمام الأمور لم يعد يمثل جموع الناس العاديين، ولم يعد يعبّر عن تطلعاتهم المشروعة في حياة كريمة. ثاني هذه الأسئلة هو السؤال الخاص بموقف المؤسسة العسكرية سواء على صعيد وحدتها وراء أحد أطراف العملية السياسية وتحولها من مؤسسة قومية مهمتها حفظ التراب الوطني ووحدة أراضي الدولة إلى داعم لأحد الأطراف مع ما يستتبعه ذلك من تسييس للمؤسسة العسكرية والزج بها في أتون الصراعات الداخلية. هذا السؤال يُعبّر عنه في بعض الأدبيات السياسية بسؤال: متى يخون الجيش نظامه السياسي؟ ومتى تنحاز المؤسسة العسكرية لصف الشعب؟ كما حدث في ثورة الشاة مثلا عندما رفض الجيش إطلاق النار على المتظاهرين في الشوارع حتى انهار عرش الطاووس. نعلم أن النظم السياسية الاستبدادية تشتري ولاء المؤسسة العسكرية بما تغدقه عليها من منافع ومزايا، حتى يتم تحويل الجيش إلى أحد أهم المستفيدين من الوضع القائم، فيصير أشد المؤسسات محافظة. كما أن عمليات التطهير المستمرة لكل من يشتم منه رائحة توجه معارض للنظام تأتي على البقية الباقية من أي اختلاف في توجه المؤسسة. ثالث هذه الأسئلة هو الخاص بالموقف الخارجي (دولا عظمى وإقليمية ومؤسسات دولية وإقليمية) ففي حالة ساحل العاج تم عمل سلسلة من الضغوط المتوالية أهمها التهديد بمنع المعونات وعمل حظر على الرئيس وزوجته وتجميد الأرصدة، أما في حالة مصر فغض الطرف وبعض التصريحات من باب ذرّ الرماد في العيون. بالطبع لا نتمنى لوطننا ولا حتى لنظامه أن يتعرض لأية ضغوط تهدد كيان الدولة ذاتها، وهذا موقف وطني نابع من حب عميق لهذه الأرض العزيزة حتى وإن جار علينا حكامها. مرت الانتخابات المصرية بكل ما شابها من تزوير – شهد به القاصي والداني- يكرّ على أصل مشروعيتها بالبطلان بل وبطلان ما تصدره من قوانين، هكذا كانت أحكام المحكمة الإدارية العليا المتتالية والتي تجعل من كل حريص على مستقبل هذا البلد أن يتوقف ولو لحظة من أجل التفكير في المستقبل، ذلك المستقبل الذي كلله السماسرة الجدد بالسواد، وقضى هواة السياسة على آخر رمق من محاولة للتغيير السلميّ بالأدوات والوسائل القانونية والدستورية، وقالوا للناس بلسان الحال بعد أن قالوها بلسان المقال أننا الحاكمون الجدد، شاء من شاء وأبى من أبى، هؤلاء الذين يتعاملون بمنطق أن كل شيء يمكن شراءه حتى البشر، والفرق فقط في ثمن الشراء، ربما من كان عنده ضمير أعمق سعره أغلى. فانتخابات تشريعية تم تزويرها عيانا جهارا لم نسمع صوت لشجب ولو على استحياء لدولة بحجم مصر لا زالت تزور فيها الانتخابات مما يعيدنا قسرا إلى أيام الاتحاد الاشتراكي والاتحاد القومي. لماذا لم نسمع صوت لهذه المؤسسات الدولية التي تعمل على دمقرطة العالم وملاعبته بعصا الديمقراطية وجزرتها؟ أين المؤسسات الدولية التي تعمل على شيوع ثقافة التغيير السلمي واحترام إرادة الناخبين وسيادة ثقافة الصندوق الانتخابي؟ ربما كان ثقل مصر الإقليمي واعتبارها أحد أهم الدول المحورية (Pivotal States) في المنطقة مما يشجع العمل على استقرارها ولو على مضض الاستبداد وليس التغيير الذي ربما يأتي برياح لا تشتهيها سفن كثيرة. ربما فزّاعة الإسلاميين قد فعلت فعلها في العقل الغربي مما جعله يقبل كل البدائل حتى حكم العسكر على أسنة الرماح أو من وراء ستار ولا يقبل حكم الإسلاميين ولو جاءت بهم صناديق الانتخابات، والتجربة الجزائرية خير شاهد على نفاق كثير من الأصوات المنادية بسيادة الثقافة الديمقراطية في الولاياتالمتحدة وأوروبا. ربما تأثيرات نظرية الدومينو وهي إلى حد كبير تحكم كثير من العقليات من صناع السياسة في الدول الكبرى، ومصر الدولة الكبرى والمحورية من الممكن أن تعيد كتابة تاريخ المنطقة والشرق إذا قدر لها أن تتحرك. يقول أحد المفكرين إن جواسيس العالم بعد انهيار الدولة العثمانية كلهم تحرك من اسطنبول صوب مصر لعلمه أنها قلب العالم العربي والإسلامي ومؤشر صحته ومرضه والدليل على عافيته أو كبوته، والتاريخ خير شاهد أن مصر قد حمت العالم الإسلامي من جحافل الفرنجة والتتار، وهكذا مصر قلعة العروبة والإسلامية لا نقولها شوفينية ولا غرورًا في غير محله ولا تفاخرًا من غير دليل، إنما واقع أثبته التاريخ. هذه أسئلة (ومحاولات إجابة) أطرحها على المهمومين بمستقبل هذا الوطن، لا يدعي أحد أنه يملك إجابة واحدة عليها، ولا يزعم أحد أنه يملك الحقيقة المطلقة، ولكنه أنها اجتهاد يحتمل الصواب والخطأ، ودعونا نفكر في المستقبل ونتجاوز أطر الخلاف الضيقة فكرية وسياسية. والساحة مفتوحة للإجابة على هذا التساؤل الكبير: كيف يمكن إحداث ثغرة في هذا الطريق المسدود، طريق الإصلاح في مصر، ثغرة لا يُراق فيها دم مواطن، ولا تهدر فيها مقدرات وطن؟