فقير إلى كل شيء عداها.. وليس له بعد الله سواها..أمه .. في أواخر العشرينات من عمره .. قالوا :والدتك تدهورت صحتها ..زارهاالملهوف مرارا عاجزا تكسوه المسكنة.. في هذه المرة حملت قدميه ثقل جسمه وأثقالا مع ثقله..هلعا:أن يكون على موعد مع الفجيعة..فقدان الملاذ الأخير الذي يشعر في رحابه بإنسانيته ..أو يتذوق معه قبس من رحمة الله التي وسعت كل شيء ..وصل إلى حيث رقدت : مبني حكومي ( قيل مستشفي! ) تكسوه ومن فيه الكآبة!..صعد الدرجات ،يطوي الأدوار تائها ،يري الصاعدين والهابطين أشباحاً ؛ استحال عقله إلي سؤال مؤلم : كيف أحيا بغيرها ؟!..فلقد كانت واحته وسط صحراء الحي الذي غاب ، وانغرست في أرجائه العمائر الأسمنتية السوداء ..وقف أمام غرفة ( قيل للإنعاش !) يجر قدميه ..اقترب من الباب الذي لم يره إلا نافذة على كآبة نفسه..زارت عيناه وجوه الغائبين..يبحث عن الوجه الذي لم يأنس لغيره ..حطت قدماه أمام سريرها وسكنت عيناه الزاهلتان على وجه شاحب غابت صاحبته عن الوجود : غيبوبة وزير الصحة عنها وعن أمثالها مع أبناء الأكابر الذين أصيبوأثناء تأديتهم الخدمة الوطنية الجليلة بالرقص حول ( الميجا ستار ) عمر دياب ! في جامعة المستقبل ! .. غابت أمه : غيبوبة النقود عن يده فعجزت عن دفع الثمن !..ثمن المعاملة الكريمة أو الرعاية الكريمة للأم وابنها..أو حتي تجفيف فراش الغائبة !! ..غيبوبة أخته الوحيدة مع الفقر يصرعها في محافظة أخري فلا تملك أن تزور أمها .. غيبوبة ذوي أرحام و جيران ومجتمع أذهلهم جميعا الطغيان والاستبداد والفقر عن أن يري أحد غير نفسه وياليته يراها !!..غيبوبة من يزعمون أنهم أطباء ومعالجون ..راحوا يمرقونه بقدر ماتوحي به هيئته من فقر و بؤس وقلة حيلة وانكسار .. غابت أمه كمن غابوا : غياب أحدهم زعموا أنه طبيب: انصرف عن مريض فقير في مستشفي حكومي إلى مريض غني في مستشفي استثماري .. وغيبوبة أحدهم زعموا أنه سياسي انصرف: عن مصالح الناس إلى منافعه ومصالحه ومجده الشخصي..وغيبوبة آخر زعموا أنه شرطي وفي خدمة الشعب !.. فراح يمعن في الشعب تعذيبا وسحلا وقتلا واعتقالا!.. وغيبوبة القناعة والسخاوة من نفس رجل أعمال جشع ..وغيبوبة مبشرين و دعاة :ركنوا للسلطان و سكنوا ثياب الشيوخ والكهان؛ فلما تصدوا لوعظ الناس لم يصدقهم الناس ولم يتأثروا بهم فلم يزيدوهم من الله إلا بعدا وعاد الناس لا يفقهون ما الإيمان؟! وما امتحان الإيمان ؟! ..وغيبوبة دولة لم تصن أمانة الوكالة عن الرعية فغيبّت الصادقين والصالحين المصلحين وراء الجدران وأطلقت للفاسدين المفسدين والمزوّرين والمجرمين العنان، وأغلقت نوافذ تزكية نفوس الناس وتهيئتهم للتعاطي مع المصائب والكروب بمنطق الإيمان وقلب الإيمان ووعي الإيمان..وغيبوبة نخبة علمانية كارهة للناس ودينها يسمونها مثقفة سلكت مع الحاكم سلوك الضباع تتطلع إلى الجيف من بقايا الظالمين !..نخبة تعالت على العلي فسارت في الدنيا مسار من يختار لربه (حاشاه) لا مسار عبد يختار له سيده (جل في علاه )..وغيبوبة نظم تعليمية عقيمة قتلت الخيال في العقول فأصبح الطلاب لايري أحدهم أبعد من أطراف قدميه ..وغيبوبة وسائل إعلام جعلت رسالتها: تغييب الناس عن خيرالدنيا والآخرة !!..وغيبوبة مسئول لم يدرك يوما أنه أمام ربه موقوف حتما ومسئول !! ..استبدت به نفسه الأمارة الخوّارة ..كما استبد به كل من حوله لضيق ذات يده وعقله وحوله..فهو بمعارفه وعواطفه وسلوكه ومداركه: منتج من منتجات بيئة سياسية مستبدة وبيئة اجتماعية مستبدة وبيئة إيمانية مستبدة وبيئة نفسية مستبدة وبيئة عقلية مستبدة ..فسولت له نفسه حدوث ما استقر في نفسه واعتاده من استبداد ...الشيء الجميل الذي يغيب لا ولن يعود.. فقد غابت عنده أمه ولن تعود :غابت أمه التي ولدته تحت وطأة المرض وغابت أمه الكبيرة ( يسمونها أم الدنيا! ) التي احتضنته في حي من أحيائها ( قيل حي الزهور !) : ذاهلة تحت مقصلة : «التوريث»؛ وغاب معها الكثير من أبنائها .. فلماذا يحضر ولا يغيب بعد أن غاب فيه وعنه ومنه كل مقومات الحياة بكرامة وإنسانية ؟!..لم يسعفه أحد بحقيقة الإيمان الذي عدته النخبة العلمانية التائهة: «خرافات»..فصل العلمانيون الشاردون : دينه ودين الناس عن دنياه ودنيا الناس ؛ فانفصل إيمانه وإيمان الناس عن حياته وحياة الناس .. لم يعلمه أحد أنه : إن غابت أمه فإن رحمة الله لا تغيب! وإن ماتت أمه فإن ربه حي لا يموت !..ولم يعلم أن أقدرا الله محفوفة بألطاف الله كما قال القائل : فمن ظن انفكاك لطفه عن قدره فذلك من سوء ظنه ( بتعبير بن عطاء ) . . غاب معها في دهاليز أبالسة العلمانية السائدة حيث يستوي حسب ظنه موته وحياته ..فأبي إلا أن يستبد بحماقته فوضعها بينه وبين ربه( بتعبير الرافعي ) .. انسحبت عينيه من محل سكنها على وجه أمه والتفت جسده يحمل جزع نفسه.. صعد إلى الطابق العلوي توجه نحو النافذة الواسعة الضيقة الساطعة المظلمة ! ..ألق نظرة يمنة ويسارا على السائرين غيابا أو نياما.. هل يحس به من أحد ؟! ..هل يراه من أحد؟! لم يفطن المسكين نسِأل الله العافية أن الله يري مكانه ويسمع كلامه !! .. صعد إلى حافة النافذة ثم ترك نفسه تهوي إلى حيث ظن أنه سيغيب !! ...غاب هشام عن حياتنا تاركا أمه في غيبوبة يغرق في مثلها كثيرون (من حوله وحول أمه) كبيرا كان أو صغيرا حاكما كان أو محكوما خفيرا كان أو أميرا..غيبوبة غرق فيها الكثير من الأحياء البعيدة والقريبة من حي الزهور ( ببور سعيد ) ..حتي قبل أن يغيب فيها أحياء حي الزهور ..ثم ماذا ؟!ستر المعاينون الجثة ..كما يستر كل فاسد فساده وكل مجرم جريمته وكل طاغية طغيانه وكل غائب غيبوبته ..ثم ماذا ؟! لقد غابت المنظومة التعليمية فلم يتسع خيال « هشام» ومثله كثير لعظائم الأمور ، وغابت البيئة الإيمانية فلم يرض بقدر الله المقدور ، وغابت الحرية السياسية فلم ير لحياته مستقبلا في الأفق المنظور ، وغابت القيم الاجتماعية فلم يعاين كافل ميسور ،وغابت التأمينات الصحية فعلم أنه في علاج أمه مغدور ،غابت المنظومة المهنية فعلم أن تحقيق الدخل الكريم محظور ، غابت عنه العدالة بكافة أشكالها فأضحي في دياجير الظلم محصور ، غابت أمه الصغيرة الوالدة وأمه الكبيرة مصر الحاضنة ..غاب ماتحول مع غيابه الوطن إلي غابة ..انطفأت في عقله الرؤية ..وانطفأ في البصر البصيرة ..ضاقت عليه نفسه وضاقت عليه الدنيا بمارحبت وظن بالله ونفسه وكل من حوله الظنون ؛ فلم ير نفسه إلا غائبا منحورا في بيئة غائبة المعالم والملامح والهوية ؛ فلم يفعل أكثر من تأكيد غيابه ونحره! .. فانتحر! .. ولم تزل أمه ومن حولها في غيبوبة ؟! ثم ماذا ؟! جاء في الصحف المصرية : ..تخلص فنى لحام فى حى الزهور ببورسعيد من حياته، ، بالقفز من الدور الخامس بمستشفى الزهور العام، بسبب عجزه عن علاج والدته المريضة.قالت التحقيقات إن العامل توجه لزيارة والدته بالمستشفى، فوجدها فى حالة غيبوبة بغرفة الإنعاش، فلم يتحمل المشهد وقرر التخلص من حياته. تم إخطار النيابة، التى طلبت تحريات المباحث حول الواقعة، وتوقيع الكشف الطبى على الجثة.تلقي المقدم محمد غزالة رئيس مباحث الزهور إشارة من المستشفي العام بسقوط شاب من الدور الخامس وتوفي في الحال . تبين من التحريات، التى أشرف عليها العميد عز منصور، مدير المباحث الجنائية، والعميد عبدالله خليفة، رئيس المباحث، أن الشاب يدعى هشام محمود العجرودى، «27 عاما» ، فنى لحام ، يعيش بمفرده، وليس له مسكن ويعانى الفقر الشديد، ودخلت والدته هدى السيد محمد «75 عاما» مستشفى الزهور العام، فى حالة غيبوبة تامة استمرت 15يوما، وفى أحد الأيام زارها ابنها وصعد للدور الخامس من المستشفى وألقى بنفسه إلى الشارع...وأكد شهود عيان ما جاء فى التحريات. تحرر محضر بالواقعة، وصرح بكر عبد الحكيم، وكيل أول نيابة المناخ والزهور، بدفن الجثة واستدعاء الطبيب الشرعي لبيان سبب الوفاة..!! ثم ماذا ؟! ليس لها من دون الله كاشفة! ..ربنا اكشف عنا الضر إنا مؤمنون !! الحرية هي الحل . [email protected] [email protected]