انتهى من حياتنا عام هجري، واستقبل العالم عاما هجريا جديدا.. فكيف ودّعنا العام المنصرم .. وكيف استقبلنا العام الجديد...؟ سؤال ظلّ يلحّ عليّ لعدة أيام وأنا أحاور نفسى متحيّرا.. هل أقول: أننا ختمنا عامنا الهجري المنصرم أسوأ ختام وشيّعناه بأحط عملية تزوير انتخابية فى تاريخ مصر، وكأننا نشرع فى وجه صاحب الهجرة النبوية الشريفة سيف العصيان الفاجر ونجاهر بالفاحشة التى ارتكبناها، انتهاكا لتعاليمه الصريحة، واجتراء على دعوته ورسالته التى جاءت بالصدق والأمانة وحذرت من الكذب ونهت عن قول الزور وشهادة الزور وعمل الزور..؟! هل أقول إن نظامنا السياسى ظل طوال العام المنصرم يجَرْجِرُنا معه من هزيمة إلى هزيمة، ومن فضيحة إلى فضيحة أخرى، فى كل المجالات التى اؤتِمِنَ عليها: سواء فى السياسة أو الاقتصاد أوالتعليم أوالصحة أوالزراعة، وفى حقوق الانسان المصري وأمنه وحياته التى كانت تُنْتَهَكُ كل يوم فى ذلك العام انتهاكا مروّعا، وسجّلت صحائف من أسود صفحات تاريخ مصر ..؟! تذكّر تعذيب الأبرياء فى مراكز الشرطة، وقتل شُبّان أبرياء بدم بارد .. واجتراء الكنيسة على حبس المعتنقات للإسلام وتعذيبهن( كامليا ووفاء قسطنطين وإخوتهما)، تحت سمع السلطة وبصرها.. بل بمساعدتها وتواطؤها أيضا...! وهل أقول إن التردّى الذى أصابنا فى كل قضايا الأمة المصيرية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية قد حدث بسبب موقف مصر اللامبالى بمصالح هذه الأمة .. بل المتواطئ مع مخططات أعدائها....؟! هل أقول إن تفكيك السودان الذى يجرى الآن أمام أعيننا دون أن نملك شيئا لإيقافه .. قد ساهمت فيه السياسة المصرية منذ بداية عهد البشير والترابى حتى الآن..؟ ألم نحرّض الانفصاليّ جون جرانج.. واحتضنّاه وهو يحارب الشعب السوداني فى الشمال.. بسلاح أمريكي وإسرائيلي.. وبقوى التبشير الصليبي، طول الوقت..؟ ألم نحرّض البشير على الترابي شريكه فى السلطة.. وركزنا سطوة إعلامنا الشرسة على الترابى لأنه ينتمى إلى فكر العدو الأول فى حسابات السلطة الحاكمة وأعنى على وجه التحديد الإخوان المسلمين.. حَمَلََنا ضيق الأفق وخدعتنا المصالح العاجلة فى محاولة كسر شوكة المعارضة الاسلامية حيثما وُجِدَتْ.. وعمينا عن المصالح الآجلة والنتائج المروعة التى تنتظرنا فى المستقبل...؟! ألم نخدع البشير بأن الانفصال عن الترابي و العمل على مطاردته ومحاصرة حزبه ونشاطه.. هو الباب الوحيد المفتوح أمامه لترضى عنه أمريكا.. وتساعده فى حلّ مشاكله فى الجنوب وفى الشرق ..؟! ألم نهدّد السودان بالحرب وقمنا بتحريك قواتنا المسلحة إلى حلايب للضغط عليه.. وأذكر هنا عندما ثار الجدل الأحمق حول تبعية منطقة حلايب فى الإعلام المصري والسوداني ، وما كان ينبغى له أن يثار، لولا مواصلة التصعيد الإعلامي الملتهب على الترابى، متمثلا فى مقالات ابراهيم نافع الهجومية فى الأهرام، ولولا ردود الفعل الخاطئة التى تورّط فيها الجميع ، وكان يمكن احتواءها بالحكمة من كلا الجانبين.. لو توفرت النية الصادقة، أذكر أن الدكتور أسامة الباز المستشار الدبلماسي للرئيس عندما سُئِل (وقد احتدمت معارك الكلام): هل احتمال الحرب مع السودان خيار وارد فقال: لا.. وكانت هذه العبارة هى الضربة القاضية التى أطاحت بمركزه السياسي إلى اليوم.. فلم نسمع به ولا عنه منذ تلك اللحظة الفاصلة.. وتولّى عندئذ صفوة الشريف، ولم يكن وزيرا للخارجية وما ينبغى له، لولا أنه أُعطى الضوء الأخضر ليقوم بهذا الدور فى إفساد العلاقات بين البلدين الشقيقين، حيث أعلن: أن كل الاحتمالات واردة بما فى ذلك الحرب..(طبعا ليس على إسرائيل العدو الحقيقي) ولكن على دولة عربية جارة نشترك معها فى مصالح مصيرية أزليّة.. وتعتبرامتدادا استراتيجيا لأمن مصر .. ويكفى أن حياتنا وحياة السودان تعتمد على شريان حياة واحد هو نهر النيل...! لقد اقتنع البشير أو أُرغم على الاقتناع، ففعل كل ما نصحناه به .. وكانت النتيجة المباشرة على الوجه الآتى: زاد السودان ضعفا.. واستمرت عملية تفكيك الدولة ، وانتقلت الاضطرابات إلى الشرق فى دارفور حيث تفجرت فيها الخلافات وأعمال التمرد والحرب الأهلية، بتحريض وتمويل مرة إخرى من إسرائيل وأمريكا.. وبالنسبة للبشير نفسه: أصبح متهما رسميا ومطاردا من قِبل محكمة جرائم الحرب الدولية..! وكل ذلك فى إطار مخططات إضعاف الدول العربية والاسلامية وإشاعة الاضطرابات و[الفوضى الخلاّقة] بها، تمهيدا لتمزيقها وتقسيم أراضيها وإخضاعها للهيمنة الصهيونية الأمريكية، وامتصاص مواردها، لحساب الشركات الرأسمالية الكبرى، السيد الحقيقى للجميع.. هل أقول: إنه حقا من العار علينا أن نكون عوامل مساعدة لمخططات أعداء الأمة.. ذاهلين عن الحقيقة التاريخية : أن دور باكستان واليمن قادم على الطريق بأسرع مما يتصور الجهلاء والغافلون.. ربما تكون باكستان هى الأسبق فى الانهيار فقد أصبحت قاب قوسين من حالة الفوضى الضاربة، وهى اللحظة التى تترصّدها أمريكا، فتتقدم لتفكيك قوتها النووية بدعوى أن باكستان قد أصبحت غير قادرة على حماية منشئاتها من عبث الإرهابيين.. فإذا نجحت أمريكا فى تفكيك القوة النووية واستولت عليها كما فعلت مع ليبيا، فسوف تترك باكستان نهبا للفوضى العارمة والانحلال الأكيد.. تقول إن دور مصر لم يحِنْ بعد.. وأقول نعم لأنها لا تزال مطلوبة لبعض الوقت فى خدمة المصالح الأمريكية الصهيونية مع الفلسطينيين .. ولذلك فإنهم يحافظون على بقائها طافية فلا يغرقونها لتموت، ولا يخرجونها من لجّة الماء لتحيا وتتنفس هواء طبيعيا، خوفا من أن تتعافى وتقوى فتتمرّد على دورها المرسوم لها، فى تصفية القضية الفلسطينية.. ولكنى أؤكد لك أن دور مصر قادم لا محالة عاجلاً أو آجلاً فى عملية التمزيق والهدم.. أما فى الوقت الراهن فإن مصر قد فقدت مصداقيتها وكرامتها ونفوذها لا فى السودان فحسب وإنما فى كل أفريقيا.. فقد انهارت مشروعاتنا مع السودان فى النيل الأبيض .. وانفردت دول منابع النيل الأبيض والأزرق جميعا باتخاذ القرارات المصيرية فى مياه النيل وتوزيع حصصها، والتصرّف فيها، بما يعرّض مستقبل مصر لخطر الجفاف والعطش.. وذلك بإقامة السدود على منابع النيل .. كل ذلك بتحريض ودعم ماليّ من أمريكا وإسرائيل..! وقد بدأت مصر تفيق من وهمها وسُباتها لتستجدى دولا إفريقية صغيرة ، وتحاول تقديم مساعدات لهذه الدول .. لعلّها تتعطّف علينا بحقوق كانت لنا فى الماضى.. ولكننا نتحرك دائما بعد فوات الأوان .. ونخطو خطوات هزيلة تتناسب مع كيان مريض منهار لا تجرى فى عروقه دماء العافية والكفاءة..؟! هل أدركنا حجم الجريمة التى ترتكبها سياستنا الحمقاء تجاه القضية الفلسطينية التى تتردى الآن فى أسوأ مراحلها، بالعمل المتواصل على حصار غزة وتجويع شعبها وبناء السور الفولاذي العازل على حدودها، ومرة أخرى للقضاء على حماس الإخوانية المقاومة.. ومحاولة بعث الحياة فى جثة ماتت وتعفّنت هى سلطة عباس...؟! إستمع إلى تصريحاته وهو يهدد أو يهذى بالإقدام على اختيارات يقول إنها لا تزال فى جعبته.. وهو فى الواقع مفلس خالي الوِفاض، إلا من الرشاوى الأمريكية والغربية .. فقط ليبقى ممثّلا على مسرح العبث الفلسطيني .. واستمع أيضا إلى واحد من بطانته وفيلسوفه المسمّى شعث، وهو لا يزال يكابر فى ضرورة استئناف المفاوضات مع اسرائيل.. وهى مفاوضات يعرف الجميع أنها مفاوضات عبثية لاجدوى منها، خصوصا بعد رفض إسرائيل القاطع للشرط الوحيد الهزيل الذى تمسّكت به السلطة فترة من الوقت، وأعنى به وقف بناء المسوطنات، الذى لم تعبأ به إسرائيل لحظة واحدة.. إن شعث يتحدث أيضا عن خيارات وهمية.. ليهرب هو وأصحابه من الخيار الوحيد الذى لا تفهم غيره إسرائيل وهو خيار المقاومة.. الخيار الوحيد الذى يمكن أن تكون له جدوى.. وما دمنا نتحدث فى ظلال مناسبة الهجرة نقول: إنه بالتأكيد هو الخيار الوحيد الذى يتوافق مع روح الهجرة النبوية الشريفة.. فلم تكن الهجرة من مكة إلى المدينة.. فرارا من جحيم الاضطهاد والمؤامرات على الدين الغض الوليد إلى حياة الدعة والسلامة.. أو الاستسلام، الذى اختارته واطمأنت إليه عصابة السلطة العباسية.. وإنما كانت الهجرة لمواصلة المقاومة والجهاد من موقع أكثر صلابة وأكثر فاعلية.. وفى إطار ظروف مواتية.. باكتساب أنصار جدد لتدعيم الدعوة.. ولخلق ظروف تفرضها المجموعة المؤمنة المهاجرة ولا تُفرض عليها.. من جانب الأعداء.. كانت الهجرة النبوة العظيمة اختبارا للفئة المؤمنة التى خرجت من مكة مخلّفة وراءها كل ماتملك من أموال وديار وأهل.. ضحّت بكل شيء.. وكان اختبارا لإخوانهم من الأنصار فى المدينة الذين استقبلوهم مرحبين ونزلوا لهم عن ممتلكاتهم وأموالهم وهى عزيزة عليهم .. حتى وصفهم القرآن بأنهم: يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.. هذه التضحيات الكبيرة وهذا التجرد لله ولرسالة الإسلام كان هو البوتقة التى محّص الله فيها عباده المؤمنين .. واختبر صلاحيتهم للمهة الخطيرة التى وضعها على عاتقهم : إنقاذ البشرية التى وصلت فى عهدهم إلى حضيض الجهل والتخبط والضلال.. والظلم الذى ساد بلاد العالم من حولهم.. دعنا نتأمل فى هذه الواقعة التاريخية الفريدة، مع المفكر الإسلاميّ العظيم على عزت بيجوفيتش، الذى نجد له دائما إسهامات فى كلّ موقف إسلامي.. إسهامات تتسم بالإبداع والإخلاص وقوة المنطق ونفاذ البصيرة .. يقول مفسرا هذه الواقعة التاريخية الهامة: "عندما نتأمل ابتلاء ومحن الجيل المسلم الأول ، و كانت الهجرة واحدة من تلك المحن ، ونسأل : ما السر في ابتلاء الله لهذه العصبة من المؤمنين ..؟؟ وقد تحملوا قبلها صنوفاً من الأذى والبلاء .. خُتمت بثلاث سنوات كاملة من الحصار والمقاطعة والجوع فى وطنهم مكة ، ثم أُجبروا أخيراً علي ترك ديارهم وأموالهم ..! إن الله ، عز وجل ، وهو العزيز القادر ، كان يستطيع بكلمة واحدة أن يهلك المشركين و يدمّرهم .. أو يزيل جميع العوائق من طريق هذه العصبة المؤمنة، التي كانت تسبّح باسمه وتقدّسه بكل هذا الإخلاص والحب العظيمين ..!؟ ولكن الله لم يشأ أن يقضي بذلك ، بل ابتلي هذه الجماعة الصغيرة بكل هذه المحن القاسية .. لماذا..؟ يقول يجوفيتش ردّا على سؤاله: " يبدو أنّنا لا نملك إلا تفسيراً واحداً وهو أن الله ، وهو رحيم و قادر ، أراد التمييز بين الصادقين وغيرهم ، بين المخلصين والمنافقين ، بين الثابتين والمتذبذبين .. وذلك لأن الوضع العالمي العام كان يتطلب تطهير العالم وتغييره وإعادة تنظيمه علي أسس جديدة . لقد وصلت الإنسانية وحضارتها فى ذلك الوقت إلي أقصي نقطة من الانحراف والتّردّى ، وكان لابد من مرور المحراث الحديدي ليطهّر كل هذا العفن ويزيل المستنقعات وينظّف التربة لتنبت بذور حضارة جديدة في أرض صالحة ... فمن كان يقدر علي حمل عبْء هذه الرسالة ..؟ لم يكن ذلك في مقدور أي جيل عادي، بل كان لابد من جيل يستحق شرف هذه الرسالة .. وقد اختار الله لذلك الشرف جيل الهجرة دون سواهم .. إنهم أكدوا استحقاق ذلك الشرف التاريخي الفريد بإخلاصهم لدينهم واستعدادهم للتضحية.. ولا يتسع المجال هنا لذكر كل التحولات العظيمة التي حدثت بعد ذلك علي مسرح التاريخ في العالم وقتئئذ : فقد انهارت إلى الأبد أكبر دولتين عُظمتين فى العالم ، ونشأت مدن جديدة ، واجتاحت العالم نهضة أخلاقية هائلة ، واكتشف الإنسان مجالات جديدة في العلم والمعرفة والحرية الإنسانية.. و بإيجاز شديد نشأت حضارة جديدة .. وأشرقت على الدنيا شمس جديدة .. حضارة الإسلام وشمس الإسلام ..." وما أشبه اليوم من كل وجه بذلك الأمس البعيد... [email protected]