ليس من قبيل قصد الإحراج أو حتى النقد السياسي القول بأن الرئيس مبارك يتعامل بحذر زائد يصل إلى حد السلبية مع فكرة "الديمقراطية" ، سواء داخل مصر أو خارجها ، والوثائق التي سربها موقع "ويكيليكس" أخيرا عن نصائح الرئيس مبارك للأمريكيين بتجاهل حكاية الديمقراطية في العراق والبحث عن ديكتاتور عسكري بقبضة صارمة لأنه الأنسب للعراق ، لا أظن أنها تأتي بجديد ، فالرئيس مبارك أكد بنفسه من قبل أنه نصح الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد بالتراجع عن فكرة الانتخابات الديمقراطية الشفافة لأنها سوف تأتي له بالإسلاميين ، وعاتبه لأنه لم يأخذ بالنصيحة ، وأمور أخرى عديدة مثل نصيحته للرئيس بوتين بتعديل الدستور الروسي على مقاسه بما يتيح له البقاء في رئاسة الدولة بدلا من التنحي الملزم بعد فترتين رئاسيتين . كما لا أتصور أن المشكلة الآن في مصر تتمثل في حذر الرئيس مبارك من الديمقراطية وتقديره أنها ليست الأصل للبلد ، لأننا في كل الأحوال لا نستقبل في السنوات المقبلة مع الرئيس مبارك آفاقا جديدة للمستقبل السياسي في مصر بقدر ما نعيش مرحلة لملمة أوراق الجمهورية الرابعة ، ولكن المشكلة الحقيقية التي كشفت عنها الانتخابات البرلمانية الأخيرة بالتحديد ، هي وجود لوبي سياسي وإعلامي وأكاديمي وحزبي لا يستهان به يؤمن بنفس رؤية مبارك للمسألة الديمقراطية وعدم مناسبتها للحالة العربية أو لمصر تحديدا ، وهذا هو الخطير وهو ما ينبغي التصدي له لأنه الخطر الحقيقي على مستقبل البلد . خلال الأسابيع التي جرت فيها الانتخابات وما أعقبها من أحداث ، كتب عدد من الكتاب والمفكرين والأكاديميين والمؤطرين حزبيا الدائرين في فلك الحزب الوطني ولجنة السياسات مجموعة من المقالات وأجروا عددا من الحوارات أبدوا فيها قدرا كبيرا للغاية من الاحتقار لمصر والمصريين ، والاستهزاء بوعي الناس وإرادتهم وأشواقهم للإصلاح وبدا أنه يدعمون بقوة فكرة التصدي لأي إصلاح ديمقراطي حقيقي بوصفه لا يصلح لمصر ، وانظر على سبيل المثال تصريحات وحوارات فضائية للدكتور مصطفى الفقي التي أبدى فيها قدرا غير متصور من الاستهتار بمسألة تزوير الانتخابات ، واعتبر أن ذلك أمر عادي في العالم الثالث ، والانتخابات التي جرت في الأردن وفي البحرين وفي أفغانستان اتهمت بأنها مزورة ، فما الجديد في نظره لأن تتهم الانتخابات التي جرت في مصر بأنها مزورة ، وهو كلام يعني ضمنيا القبول بأن هذه المنطقة من العالم ، ومصر منهم ، لا تصلح للديمقراطية أصلا ، وهذه الشعوب غير مؤهلة ثقافيا وحضاريا لاستيعاب فكرة صندوق الانتخاب . الدكتور عبد المنعم سعيد الذي سمعته في عدة محاضرات ولقاءات يذكر السامعين دائما أنه يتحدث "بوصفه أكاديمي" ، كان يتحدث باستخفاف مدهش للغاية عن التكتيك السياسي الذي استخدمه الحزب الوطني لاكتساح الانتخابات ، والأفكار الحداثية التي منحته التفوق على المعارضة وعلى الإخوان ، وكلام من هذا القبيل يحتاج إلى أن تنظر في عين قائله جيدا لكي تتأكد أنه سليم العقل والحالة الذهنية وهو يقوله ، وهو في الحقيقة استهزاء بمصر والمصريين بطريقة غير مباشرة ، وإعلان جديد عن قناعة "المفكر الأكاديمي" بأن المصريين لا يصلحون للديمقراطية ، وأن الأفضل أن يتم تزوير الانتخابات على هذا النحو . تصريحات أخرى وكتابات عديدة لشخصيات كنا في شبابنا نحترم علميتها وخبراتها السياسية ، مثل الدكتور علي الدين هلال وغيره ، يتحدثون بجليطة زائدة عن مشروعية ما حدث وأن الحديث عن التزوير لا يعبر إلا عن غضب مفهوم للمهزومين ، رغم أن هؤلاء أول من يعرفون ما حدث ، بل هم في الحقيقة شركاء في التدبير والتخطيط لهذا "التكتيك" السياسي الجديد ، وبعض القيادات البرلمانية قالت علنا في خطاب للتصدير : إذا أردتم أن يأتي لكم الإسلاميون فأجروا انتخابات على طريقتكم!! . مصر لا تعاني الآن من غياب أولوية الديمقراطية عند صاحب القرار السياسي فقط ، وإنما المشكلة أن هناك نخبة سياسية سلطوية جديدة تشكلت بفعل رتابة وطول فترة الجمهورية الرابعة أصبحت مخاصمة بالفعل للديمقراطية وحربا على الإصلاح ، وهي تستبطن أن الديمقراطية يمكن أن تكون خطرا على مصالحها ومكاسبها وحظوتها ، وهي مكاسب ومصالح وحظوة ونفوذ لم يحصلوا عليه إلا بفضل البنية السلطوية المخاصمة للديمقراطية . [email protected]