شوهت الوثائق الأمريكية التي نشرها عدد من الصحف الغربية بالتعاون مع موقع ويكيليكس السمعة السياسية لبعض دول المنطقة. وكشفت عن إزدواجية واضحة بين مواقفها المعلنة والخفية. لكنها أعادت الاعتبار من حيث لا تدري لكثير من التصورات والتقديرات والتصرفات المصرية علي صعيد السياسة الخارجية. كلنا يتذكر الهجوم العشوائي الذي تعرض له الموقف المصري أثناء العدوان الإسرائيلي علي غزة قبل حوالي عامين. وكلنا أيضا لا ينسي حجم الانتقادات التي كادت أن تشكك في الثوابت المصرية تجاه الدائرة العربية, ووصلت إلي حد التجريح والاتهام بالتواطؤ. يومها فشلت تقريبا كل التبريرات السياسية وآلة الدعاية الإعلامية في دحض الافتراءات وتبديد الاتهامات. إلي أن جاءت وثائق ويكيليكس قبل أيام لتؤكد الرفض المصري المسبق لأي عدوان علي غزة, بل وتحذير إسرائيل والولاياتالمتحدة من نتائج الخطوة المتهورة. ناهيك عن مجموعة كبيرة من الوثائق, بعثت بها السفارة الأمريكية في القاهرة لوزارة الخارجية في واشنطن ووجدت طريقها إلي النشر. وكلها حفلت بتفاصيل دقيقة لمقابلات مع مسئولين مصريين أو تقديرات سياسية لقضايا غاية في الحساسية. وتكشف قراءة الوثائق التي نشرتها خمس صحف عالمية( النيويورك تايمز والجارديان وديل شبيجل واللوموند والبابيس) عن ثلاثة نتائج مصرية رئيسية, تختلف أو تتفق معها, تتقدم أو تتأخر, لكن مضمونها بدا ظاهرا في الوثائق الأمريكية. الأولي, تعزز فكرة الانسجام بين المواقف المعلنة والخفية. فالوثائق حملت تسريبات أمريكية لسلسلة من التوجهات والتصورات المصرية بشأن إيران مثلا. وبينت عدم الرضاء الرسمي عن البرنامج النووي في شقه العسكري, وأن طهران ترغب في زعزعة استقرار مصر والمنطقة. علاوة علي اتهامات متباينة لجملة من السياسات والتدخلات الإيرانية في عدد من الدول العربية. الأمر الذي يتسق مع غالبية المواقف المصرية المعلنة من إيران ويقدم تفسيرا للإحجام المتكرر عن تطوير العلاقات معها. بينما الموقف نفسه ظهر متناقضا في الحالة الخليجية. فالعلاقات المعلنة بين الجانبين تبدو هادئة وجيدة, في حين كشفت الوثائق عن غضب عارم منها غير معلن ورغبة دفينة في إضعافها ولو بالطرق العسكرية, حتي إن حمد بن جاسم آل ثاني رئيس وزراء قطر وصف علاقة بلاده بإيران وفقا لوثائق ويكيليكس بقوله إنهم يكذبون علينا ونحن نكذب عليهم. النتيجة الثانية, تتعلق بالنظرة الواقعية للأحداث والتطورات السياسية, من فلسطين إلي العراق. فقد كشفت الوثائق ذاتها عن توجه مصري جاد ورغبة في تسوية عادلة وشاملة للقضية الفلسطينية. وكذلك اهتمام شديد بالمصالحة الوطنية, باعتبارهما من الركائز الاستراتيجية للأمن القومي المصري. وقد حاول كثيرون العزف علي بعض الخلافات الظاهرة لتأييد وجهة نظرهم حيال التباعد بين المصالح المصرية والفلسطينية والسعي لتوسيع الهوة بينهما, خدمة لأهداف سياسية وإعلامية لحظية. أما العراق فحدث عنه ولا حرج, حيث أكدت الوثائق صواب الرؤية المصرية من نتائج الغزو الأمريكي وتداعياته. وأشارت وثائق ويكيليكس إلي مجموعة من تصريحات وتوقعات الرئيس حسني مبارك. من يراجعها الآن يعتقد أنه كان يقرأ من كتاب مفتوح, خاصة بالنسبة لحجم المأزق الأمريكي هناك, علي صعيدي ردود الفعل العراقية ومستقبل الديمقراطية, فقد حذر الرئيس مبارك من عناد وصلابة الشعب, وطالب بمساعدة العراق في تنصيب ديكتاتور عادل. وقيمة هذا النوع من الوثائق أنه يعطي مبررات منطقية لما وصفه البعص أنه تقاعس مصري مع العراق في محنته. فالتدخل في ظروف مليئة بالتعقيدات والمطبات, كان من الممكن أن يضر بقوة بالمصالح والهيبة المصرية, ويضعنا في مواجهة مفتوحة مع عناصر عراقية لديها أنياب وامتدادات خارجية. النتيجة الثالثة, تخص حدود المسافة بين مصر والولاياتالمتحدة, التي درج البعض وبإصرار علي الإشارة إلي تناغمها وانسجامها, وأحيانا كان يتم تصويرها علي أنها علاقة تبعية. لكن جاءت الوثائق الأخيرة لتكشف عن وجه آخر, ربما يكون صادما لمن تعمدوا التركيز علي السلبيات وتشويه الإيجابيات من المعادلة السياسية. وهو وجود درجة عالية من درجات الخلاف والتباين, أظهرتها الوثائق في مواقف داخلية وأخري خارجية, بدءا من أزمتي أيمن نور وسعد الدين إبراهيم وحتي الموقف من إيران والعراق وعملية التسوية في المنطقة. وهو ما حدا بالسفيرة الأمريكية في القاهرة سكوبي إلي أن تقول مصر حليف عنيد ومتمرد أحيانا. وظهر هذا المعني جليا في محكات كثيرة. الواضح أن الولاياتالمتحدة, سعت من خلال السماح بتسريب الوثائق عبر وسائل تكنولوجية معقدة, إلي ممارسة ضغط متصاعد علي حلفائها التقليديين في المنطقة, بغرض الحصول علي مزيد من التنازلات العربية في قضايا حيوية, عن طريق إحراج بعض المسئولين, والمقارنة بين رؤاهم المعلنة وما يدور في الغرف العربية المغلقة. بالاضافة إلي إيجاد بيئة صالحة لفتنة إقليمية نائمة تنتظر من يوقظها, حتي يتسني ضبط إيقاع التوجهات العربية, لتتوافق مع الإجراءات الأمريكية حيال إيران, بما يفضي إلي تصويب المدافع العربية إلي صدر إيران وإبعادها تماما عن وجه إسرائيل. لكن الرياح تأتي دائما بما لا تشتهي السفن. فإيران سعت إلي قطع الطريق مبكرا علي المواجهة المعنوية المفترضة. واعتبرت الوثائق عديمة القيمة ولن تعكر صفو علاقاتها مع جيرانها, لأنها حسب رؤية الرئيس أحمدي نجاد تأتي في إطار الدعاية الأمريكية المضللة. كما أن دولا مثل السعودية وقطر والإمارات والبحرين, قد تجد نفسها مضطرة إلي اتخاذ سلسلة من المواقف لإبراء الذمة ولتدحض بها ما حوته الوثائق من تحريض سافر علي إيران, بما يؤدي إلي التقليل من قيمة الاستفادة الأمريكية. وبالتالي الإسرائيلية, التي راج الحديث عنها( الاستفادة) عقب نشر الوثائق, انطلاقا من احتمال جر الدول العربية إلي مواجهة سياسية حامية مع إيران, تقود إلي تأييد الموقف الإسرائيلي وتمهيد الأجواء للتعامل مع طهران بقسوة, تحت غطاء إقليمي غير متردد وداعم لها. يبدو أن مفاجآت ويكيليكس لن تنتهي عند هذا الحد, لأنها ربما تجر الولاياتالمتحدة لمزيد من التوترات مع الأصدقاء قبل الأعداء. وأن البيت الأبيض الذي وصف ما نشر حتي الآن من وثائق بأنه عمل متهور أصبح يواجه مأزقا حرجا, بعد أن تسبب عن عمد في ما يشبه الفتنة الإقليمية, وعليه أن يبحث سريعا عن وسائل للخروج منها أو علاجها, قبل أن يصيب دخانها الدبلوماسية ومن ثم المصالح الأمريكية في مقتل جديد.