لا يعرف السواد الأعظم من المصريين الكثير عن "نيكوس"، كما لا يعرفون الكثير عن "عدلي". أما الأول فهو "نيكوس إناستاسياديس" رئيس قبرص اليونانية المنتخب في فبراير 2013 إلى سنة 2018، وأما الثاني فهو "عدلي منصور" رئيس جمهورية مصر العربية المعين منذ 3 يوليو 3013 إلى أجل الله أعلم به. "نيكوس"(66 سنة) رئيس يميني التوجه السياسي. انتخبه القبارصة اليونانيونفي فبراير 2013 لمدة خمس سنوات. ولقبرص حكومة منتخبة أيضاً. وتبلغ مساحتها بقسميها اليوناني والتركي 9.251 كم(أقل من مساحة محافظة السويس عندنا البالغة 10.000 كم)، وعدد سكان قبرص بقسميها أيضاً 1.1 مليون نسمة، وهي عضو في الاتحاد الأوربي منذ 2004، ويمثل اقتصادها 0.2% فقط من اقتصاد هذا الاتحاد. وهي أيضاً مدرجة في قائمة دول ال PIIGS (البرتغال وإيطاليا وإيرلندا واليونان وإسبانيا) التي تعاني من اضطرابات مالية شديدة في صورة ارتفاع معدلات الديون السيادية على هذه الدول، بما يجعهل من دول "العبء" على الاتحاد الأوربي برمته. وقد صنفت مجموعة "موديز" قبرص بدرجة CAA3؛ أي دولة على وشك الإفلاس. وفي هذا السياق قام رئيسها "نيكوس" بالتنازل عن ربع راتبه ليكون قدوة في دعم ميزانية بلده. كما تبيع قبرص جنسيتها لأي رجل أعمال خسر استثماراته في قبرص نتيجة أزمتها الطاحنة، أو يقوم باستثمار ثلاثة ملايين يورو، في إطار خطة الإنقاذ الاقتصادي التي ينفذها الاتحاد الأوربي في قبرص. أما "عدلي"(68 سنة) فلا يُعرف له توجه سياسي، وهو رئيس معين ، ومؤقت، لجمهورية مصر التي تبلغ مساحتها مليون كيلو متر مربع(أكبر مئة مرة من قبرص)؛ يبلغ عدد سكانها 84 مليون نسمة(أكثر ثمانين مرة من قبرص)، وهي عضو مؤسس في "جامعة الدول العربية" (لاحظ)، وعضويتها معلقة في "الاتحاد الأفريقي منذ انقلاب يوليو 2013م(لاحظ أيضاً). ويبلغ إجمالي الناتج المحلي المصري 303 مليار دولار أمريكي (حسب موازنة 2013 ). ومتوسط دخل الفرد سنوياً هو 6.640$(ستة آلاف دولار وستمائة وأربعون دولار أمريكي وفق تقديرات البنك الدولي لتعادل القوة الشرائية بالأسعار الجارية للدولار سنة 2012 ).والتصنف السيادي لمصر بحسب موديز هو CAA1 مع توقعات سلبية بمزيد من التدهور الاقتصادي نتيجة عدم الاستقرار السياسي والأمني. ولكن "عدلي" لم يحذ حذو "نيكوس" في التبرع بربع راتبه ليكون قدوة في دعم خزانة الدولة. ومناسبة الحديث عن "نيكوس وعدلي" معاً هو مباحثاتهما في القاهرة يومي 11و12/12/2013. وقد احتفت وسائل الإعلام المصرية مكتوبة ومرئية ومسموعة بهذه المباحثاتواعتبرت زيارة نيكوس لعدلي نصراً دبلوماسياً نادر الحدوث. ولكن وسائل الإعلام تلك كشفت لنا عن أن سر هذا الاهتمام أن قبرص هي "الدولة الأوربية الوحيدة التي طلبت كتابةً خلال اجتماع مجلس الشئون الخارجية الأوروبية عدم توصيف انحياز القوات المسلحة المصرية لارادة الشعب في30 يونيو بالانقلاب العسكري". وقبل ذلك صرح مسئولون قبارصة لوفد صحيفة الأهرام (26/10/2013) أن قبرص لها علاقات قوية مع إسرائيل وعلى استعداد لتوظيفها في دعم العلاقات المصرية الإسرائيلية، بما يعني أن هذه العلاقات لم تكن حسنة قبل الانقلاب. وقد كشفت التغطية الإعلامية المصرية أيضاً عن أن مباحثات "نيكوس عدلي" تناولت ترسيم الحدود البحرية بين مصر وقبرص بعد اكتشاف احتياطيات هائلة من الغاز تحت مياه البحر المتوسط، ولكن دون أن تقدم الصحف أو الفضائيات المصريةأية تفاصيل رغم الأهمية العظمى لهذا الموضوع. وتناولت المباحثات قضية أخرى ثانوية من حيث أهميتها الاقتصادية وهي تسيير طائرة يومية بين لارنكا القبرصيةوالقاهرة بسعة 76 راكباً (فقط ستة وسبعون راكباً)!وحظيت هذه المسألة بتغطية واسعة ومفصلة، رغم أنها لا تعوض خسارة مصر لثلاث رحلات يومية لمصر للطيران بين القاهرة واسطنبول، وفي كل رحلة أكثر من 200 مسافر. وأشارت التغطية الإعلامية كذلك إلى تصريحات "نيكوس" بأن بلاده قبرص تقف إلى جانب الشعب المصري في تحديد مستقبله بنفسه!"، وأن الحوار بين اليونان وقبرص ومصر سيكون في مصلحة البلدان الثلاثة. وهنا بالضبط نصل إلى مكمن الخطر في مباحثات "نيكوس عدلي". باستحضار "تركيا" إلى هذا المشهد(القبرصي اليوناني المصري) الذي اشار إليه الرئيس القبرصي، يتبين لنا أن مباحثات "نيكوس عدلي" ليست سوى "نكاية"من الجانب المصري في تركيا، وليست إلا خدمة لليونان من الجانب القبرصي. ويتضح لنا أيضاً وهو الأهم أن الدبلوماسية المصرية تتصرف بلا أي قدر من الحكمة في رعاية المصالح الاقتصادية المصرية مع دول المنطقة، وبخاصة مع تركيا التي تمثل أهمية اقتصادية وجيو/استراتيجية وأمنية كبيرة بالنسبة لمصر، ولا يمكن أبداً أن تعوضها أية علاقات، حتة لو كانت قوية وإيجابية مع قبرص ؛ تأتي على حساب تركيا أو نكاية فيها. إن تركيا هي الدولة التي تماثل مصر مع وجود فوارق من حيث أهميتها التاريخية والحضارية، ومن حيث موقعها الاستراتيجي، وقوتها الاقتصادية.فضلاً عن أن تركيا تربطها بمصر فعلاً علاقات تاريخية واقتصادية مهمة. تبلغ مساحةتركيا حوالي ثلاثة أرباع مليون كيلو متر مربع، وعدد سكانها 75 مليون نسمة (2013)، وهي تسعى لعضوية الاتحاد الأوربي منذ سنوات طويلة، ولها رئيس مدني منتخب لسبع سنوات منذ أغسطس 2007 هو الرئيس عبد الله جول(63 سنة)، وهو رئيس إسلامي في توجهه السياسي(بخلاف اللاتوجه للرئيس عدلي). ولتركيا حكومة ديمقراطية منتخبة لثلاث دورات متتالية برئاسة رجب طيب أردوغان منذ سنة 2003م. وتحتل المرتبة 16 ضمن أقوى الاقتصاديات العالمية، والمرتبة 6 على مستوى الاتحاد الأوربي، وبإجمالي إنتاج محلي قدره ترليون دولار و118 مليار دولار أمريكي. ومتوسط دخل الفرد التركي سنوياً هو 18.190 $(ثمانية عشر ألف ومئة وتسعون دولاراً أمريكياً وفق تقديرات البنك الدولي لتعادل القوة الشرائية بالأسعار الجارية للدولارسنة 2012؛ اي ثلاثة أضعاف متوسط دخل الفرد المصري). وتركيا أيضاً هي الرابعة عالمياً في تقديم المساعدات الإنسانية، وهي متأخرة على قائمة الدول التي تتلقى مساعدات اقتصادية وعسكرية. في حين لا تظهر مصر على قائمة القوة الاقتصادية للدول إلا بعد المرتبة المئة والعشرين، بينما تظهر في ترتيب متقدم على قائمة الدول المتلقية للمساعدات الإنسانية والمنح والقروض والمعونات الاقتصادية والعسكرية. ويضاف إلى هذا كله أن تركيا تحتل الثلث الشمالي من قبرص منذ سنة 1974، وهذا الثلث الذي تحتله تركيا أغلبية سكانه مسلمون، وينتج ثلثي الناتج المحلي لقبرص كلها؛بينما أغلبية سكان قبرص اليونانية مسيحيون أرثوذكس. والعلاقات التركية القبرصية/اليونانية بالغة السوء ولا تكاد تهدأ حتى تعود للتأزم والتوتر الشديد منذ عقود طويلة، وذلك لأسباب عديدة لا مجال للتفصيل فيها هنا. على خلفية التوتر المزمن في العلاقات التركية/القبرصية/اليونانية يمكن فهم التحرك الدبلوماسي المصري/القبرصي الأخير، ويمكن تقييم محادثات "نيكوس عدلي".والواقع أن المعطيات الجيو/استراتجية تشير إلى أن قبرص لها تأثير مباشر على الأمن القومي العربي بما فيه الأمن القومي المصري، وكانت ولا تزال مصدر تهديد للأمن القومي العربي بما فيه المصري. ولهذا بادرت حكومة الرئيس محمد مرسي خلال عام 2012 بتوثيق العلاقات مع تركيا بفتح آفاق جديد للمستثمرين والشراكة بين رجال الأعمال الأتراك والمصريين، وتعزيز العلاقات العسكرية بتوقيع اتقافية التعاون الاستراتيجي والتدريبات المشتركة بين الجيشين المصري والتركي. ودخلت العلاقات المصرية التركية مرحلة متقدمة من التعاون الاستراتيجي، رغم أن السياسة الأمريكية كانت هي المصدر الرئيسي لعرقلة هذا التعاون، وسعت للحيلولة دون تعزيز العلاقات المصرية التركية، نظراً للارتباط الوثيق للسياسة الأمريكية بالمصالح الإسرائيلية وأطماعها المعروفة في منطقتنا. ومن مؤشرات تنامي قوة العلاقات المصرية التركية في عهد الرئيس مرسي قيام رئيس الوزراء رجب أردوغان بزيار القاهرة في 12 ديسمبر 2011 ، وكانت تلك هي زيارته الخارجية الأولى بعد فوز حزبه للمرة الثالثة في الانتخابات البرلمانية. وقد خالف أردوغان بزيارته تلك ما كان متعارفاً عليه في الدبلوماسية التركية ؛ حيث درجت على أن تكونأول زيارة لرئيس الوزراء بعد تنصيبه إلى "قبرص التركية". ثم قام أردوغان مرة أخرى بزيارة القاهرة والاجتماع إلى الرئيس مرسي في نوفمبر 2012 لتنسيق الموقف التركي المصري تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة، الأمر الذي أسهم في وقف هذا العدوان ضد القطاع المحاصر. وفي مايو 2013 قام رئيس الوزراء المصري هشام قنديل بزيارة تركيا. وفتحت زيارته آفاقاً جديدة للعلاقات بين مصر وتركيا، وخاصة في مجال التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري، وتنسيق المواقف السياسية والأمنية والعسكرية. وكان مثل هذا النمط من السلوك السياسي بين البلدين يصب في اتجاه بناء "رؤية استراتيجية مصرية/تركية مشتركة" بخصوص قضايا الأمن الإقليمي وليس فقط بشأن الأمن القومي المصري أو التركي كل على حدة. وبوقوع انقلاب يوليو 2013 وإعلان الحكومة التركية رفضها للانقلاب العسكري، دخلت العلاقات التركية المصرية في حالة من التوتر، وانتهت بقرار الحكومة المصرية بتخفيض مستوى التمثيل الدبلوماسي إلى درجة "قائم بأعمال"، وقامت بطرد السفير التركي بالقاهرة، وردت الحكومة التركية بالمثل طبقاً للأعراف والأصول الدبلوماسية، وظلت ثابتة على موقفها المبدئي من الانقلاب وما تلاه من إجراءات قمعية. وبهذا الإجراء ضحت حكومة الانقلاب بمصالح "استراتيجية" كبيرة للشعب المصري؛ ومن ذلك مثلاً: انخفاض الرحلات الجوية بين القاهرة واسطنبول بنسبة 35%، وتراجع معدلات النقل التجاري البحري عبر السفن التركية العملاقة (RO-RO) بين ميناء الإسكندرونة التركي وميناء الإسكندرية المصري. إضافة إلى خروج استمثارات تركية كبيرة من السوق المصري، وإحجام عدد آخر من المستثمرين الأتراك عن دخول السوق المصري، وتجميد كثير من اتفاقيات التعاون التجاري وبرامج التدريب والمناورات العسكرية المشتركة. المفاجأة لم تكن في حصول هذا التدهور في العلاقات المصرية التركية مباشرة عقب وقوع الانقلاب العسكري والإطاحة بالمسار الديمقراطي لثورة 25 يناير؛ وإنما كانت المفاجأة هي في "هرولة" الدبلوماسية المصرية نحو "قبرص/اليونانية" ونحو "اليونان" من ورائها، كيداً ونكاية في تركيا، وليس سعياً لتحقيق مصالح مصر أو صيانة أمنها القومي. ولم تكتف سلطة الانقلاب العسكري بذلك فقط، وإنما سلطت "أذرعها" الإعلامية لتخريب العلاقات مع تركيا بكل ما أوتيت من قوة . وفي مواجهة "حالة التشنج والعصبية" التي سيطرت على الموقف المصري بعد الانقلاب تجاه تركيا، لاحظنا أن كل ملامح "العمق الاستراتيجي" الذي ميز السياسة التركية، قدتجلت في رد فعلها الدبلوماسي وفي السلوك السياسي لحكومتها تجاه مصر. لاحظنا قدراً كبيراً من الهدوء والحكمة والتصرف بروية وعلى نحو تدريجي وبمعايير مبدئية وأخلاقية غير "متشنجة" وغير "عصبية". فكان ردها هو "المعاملة بالمثل" على المستوى الدبلوماسي فقط، ولم تنجر إلى التلاسن الإعلامي. وعبرت تركيا بذلك عنموقف مستند إلى إرادة شعبية حرة، بينما عبر الموقف الآخر عن نمط من الدبلوماسية الرديئة المنتمية إلى نظم انقلابية فاشية. كل ما قالته تركيا من خلال موقفها المبدئي الرافض للانقلاب العسكري والمنددة بالمجازر الدموية التي قام بها؛ هو أن السياسة لا يجب أن تكون منعدمة الأخلاق طول الوقت، وأنه لابد من احترام إرادة الشعوب في تقرير مصائرها. كل ما قالته هو أن تركيا تعلم جيداً ما الذي يعنيه الانقلاب العسكري من كوارث ومآس لا حصر لها في الحال وفي المآل. وقد ذاق الأتراك مرارات الانقلابات العسكرية منذ أكثر من نصف قرن وأوصلتهم إلى هاوية الفشل والإفلاس، ولم تنتشلها إلا حكومة ديمقراطية منتخبة. ولكن المفاجأة المفجعة أنه في مقابل هذا الموقف الإنساني والأخلاقي، بادرتالحكومة المصرية بخفض مستوى التمثيل الدبلوماسي مع تركيا بقرار عديم الحس الاستراتيجي ، وفيه كثير من التشنج والعصبية والتوتر أكثر مما فيه من الحكمة والتعقل وحسن التقدير للموقف. ونحن نشك كثيراً في أن صانع القرار المصري قد انطلق من رؤية استراتيجية واضحة(اقتصادية وسياسية وأمنية)وبنى عليها قراره بتخفيض العلاقات مع تركيا وطرد سفيرها من القاهرة؛ ليستعيض عنها بتحركات متعجلة ناحية "الأعداء التاريخيين" لتركيا وخاصة: قبرص اليونانية، واليونان؛ ليس لتحقيق مصلحة حقيقية لمصر أو لأمنها القومي أو العربي؛ وإنما نكاية في تركيا وانتقاماً من موقفها الرافض للانقلاب العسكري ، وفي سياساتها المتوسطية والإقليمية بشكل عام. والدليل على ما ذهبنا إليه من واقع المعطيات الجيوستراتيجية والتاريخية هو : أن جزيرة قبرص تبعد عن ساحل تركيا 70 كيلو مترًا فقط. وثمة نزاع عليها غير محسوم حتى اليوم منذ سبعينيات القرن الماضي بين تركيا و اليونان كما أشرنا . وبينما تبعد اليونان عن قبرص 800 كم، تبعد قبرص عن سوريا فقط 100 كم، وعن لبنان 200 كم، وعن فلسطين 300 كم.وتبعد عن مصر 482 كم. والتاريخ القريب يشهد أن تأثير تلك المعطيات كان سلبياً في أغلب الأوقات على الأمن القومي المصري والعربي في آن واحد؛ فقبرص منذ خمسينيات القرن العشرين كانت منصة انطلاق القوات المهاجمة للدول العربية من القواعد العسكرية البريطانية الموجودة هناك. فمنها انطلقت طائرات بريطانية شاركت في العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956. وفي سنة 1967 انطلقت منها أساطيل الإمدادات الاقتصادية والعسكرية لإسرائيل. وفي سنة 1973 كان الجسر الجوي الأمريكي لإسرائيل يمر عبر القواعد العسكرية في قبرص قبل أن يصل إلى أرض المعارك في سيناء والجولان السورية. وأيضاً في سنة 1982 إبان غزو إسرائيل لبنان، كانت الطائرات المعادية(أمريكية وإسرائيلية) تنطلق من قبرص، وكذلك كان جنود المارينز الأمريكيون متمركزين في قبرص لأنها قريبة من لبنان من جهة، وتسمح بحرية الحركة للقوات الأمريكية جواً وبحراً كيفما تشاء من ناحية أخرى. وتثبت الوثائق أن القوات البريطانية والأمريكية استخدمت القواعد العكسرية البريطانية في قبرص لضرب العراق وتحطيم قدراته. وأثناء العدوان الإسرائيلي على غزة 2008/2009 كانت قبرص اليونانية تقدم تسهيلات لوجستية للقوات الإسرائيلية لشن هجماتها على أهل غزة العزل. وفي أغسطس الماضي 2013 نشرت بريطانيا ست طائرات حربية في قواعدها العسكرية بقبرص تحسباً لتدهور الأوضاع في سوريا وحماية للمصالح البريطانية في المنطقة العربية. وإضافة إلى ما سبق فإن قبرص اليونانية هي جزء لا يتجزأ حالياً من الاتحاد الأوربي. وتعاونها الوثيق من إسرائيل يعني أنها ركيزة أساسية في الاستراتيجية المعادية والمهددة للأمن القومي العربي عامة والمصري خاصة. هذا إضافة إلى أن قبرص مركز لمافيا التجارة غير المشروعة، والجريمة المنظمة، وعمليات غسيل الأموال، وأجهزة التجسس والمخابرات الدولية وبمقدمتها المخابرات البريطانية والأمريكية. وقد كشفت المعلومات التي نشرتها وسائل الإعلام الدولية نقلاً عن "إدوارد سنودن" الخبير السابق في وكالة المخابرات الأمريكية (CIA) والمنشق عنها؛ أن الأمريكيين يمارسون التجسس على الشرق الأوسط منذ أحداث 11 سبتمبر من قاعدة عسكرية بريطانية في "أيوس نيكولاس" بالقسم الشرقي من قبرص بالقرب من الخط الأخضر الفاصل بين الشطر القبرصي اليوناني، والشطر التركي. وكشفت معلومات سنودن بحسب ما نشرته عنه صحيفة "زود دوتشه"الألمانية؛ أن قبرص باتت مستقراً لتعاون بريطاني أمريكي مخابراتي لجمع وتحليل المكالمات الهاتفية والرسائل الإلكترونية والمعلومات المصرفية لدول مهمة في المنطقة ومنها: سوريا، ومصر، والعراق، ولبنان. لا أعتقد أن مباحثات "نكيوس عدلي" في القاهرة قد تطرقت إلى قضايا العلاقات المصرية القبرصية على تلك الخلفية الاستراتيجية وما تمثله من فرص وتهديدات أمنية لكل من الطرفين. وفي ظل اختلال موازين القوى وتباين معايير الرؤى بين "دويلة قبرص"، والدولة المصرية الكبيرة، فإن الأرجح هو أن يحصل "نيكوس" على ما يريد لبلده، بينما "عدلي" ظهر تائهاً في بحر لجي لا قرار له؛ سواء على صعيد العلاقات المصرية القبرصية، على صعيد العلاقات المصرية اليونانية وهي أكثر تعقيداً وأهمية، كما أنها ليست منفصلة عنها. وأخشى ما أخشاه هو أن يكون تصعيد التوتر في العلاقات المصرية التركية جري ويجري في السياسة الإقليمية لمصر بمنطق "تحالف الأقليات" الذي يسيطر على الحركة السياسية المصرية في الداخل ضد إرادة الأغلبية وضد مصالح السواد الأعظم من المصريين، ودون أدنى قدر من الرؤية الاستراتيجية أو الوعي بمصادر تهديد الأمن القومي المصري في أعماقه الإقليمية والدولية.