أيا كان حجم الخلاف مع جماعة الإخوان، وأيا كانت تجاوزاتهم في حق شركائهم السياسيين والثوار من الشباب، وحتى بقية فرقاء التيار الإسلامي، فإن المعركة الكبرى الآن هي مع العسكرة والاستبداد، وعودة دولة مبارك، وتغول الدولة الأمنية. تلك هي المعركة الكبرى التي يجب أن تتوحد عليها مختلف القوى السياسية في بر مصر، بل هي أمّ المعارك. تمامًا كما كانت لحظة جولة الإعادة، عندما حمى الوطيس واحتدم الصراع بين الثورة والثورة المضادة، وكانت الإعادة بين محمد مرسي وأحمد شفيق. التف كل الوطنيين بلا تفكير ولا تردد وأشعلوا مربع الثورة، وكانت معركة حاسمة، وقف فيها كل المصريين بأجسادهم على صناديق الانتخابات، واشتغل فيها الجميع بلا فرق بين إسلامي أو ليبرالي أو يساري، على نصرة مرشح الثورة للرئاسة. تكاتفت كل القوى الوطنية خلف محمد مرسي باعتباره وقتها مرشح الثورة لأن الطرف الآخر كان بلا مواربة ولا كلام ساكت الثورة المضادة. نزلت الناس في 30 يونيه حقيقة لا أشك فيها، وكانت هناك أخطاء عديدة للدكتور محمد مرسي وأهله وعشيرته، اعترف هو بها واعترف بها كثير منهم، وأصبحت من الماضي القريب. ثم بدأت سلسة الأخطاء الاستراتيجية المتوالية من الطرفين: تم اغتصاب السلطة في 3 يوليو، وعزل الرئيس المنتخب، واعتصم الإخوان ومناصروهم في رابعة والنهضة، وكان الأمل في حل سلمي: يحفظ لجميع الأطراف حقوقها، ولا يفتئت على حق الشعب في الاختيار. ثم كانت عملية إجرامية مع سبق الإصرار والترصد تمثلت في فض اعتصامات سلمية باستخدام القوة ليس المفرطة بل المجرمة، قُتل فيها المئات -على أقل تقدير- من الشباب العزل. والآن يدور الزمن دورته ويقسم سيف الاستقطاب البلد نصفين حتى داخل الأسرة الواحدة. هناك رئيس منتخب في السجن، ووزير دفاع يمارس صلاحيات ومهام رئيس الدولة بلا انتخاب، بل بالأمر الواقع وبسلطة الدبابة. وهناك دستور كُتِب على عين العسكر وإملاءاتهم، ولم تعد دولة مبارك بل صرنا نترحم على أيام مبارك، لقد أعادوا دولة حمزة البسيوني وشمس بدران وصلاح نصر. وأعادنا ليس ستون عاما إلى الوراء بل أكثر، فقبل ستين عاما كان هناك دستور 23 وهو دستور ليبرالي كما يقول كتاب الليبرالية: كانت الحريات والحقوق محفوظة رغم بعض المظالم الاجتماعية والتفاوت الطبقي ميراث عهود الاستبداد. منذ 3 يوليو خرجنا من التاريخ، ولم يعد لنا مكان في الجغرافيا، صارت صغرى دول الخليج تلعب بنا وكبراها تمن علينا بالمساعدة، وصارت الدول الإقليمية الكبرى تراهن على انقسامنا. صحيح أن الوضع معقد واختلطت الأوراق إنما الخط الثابت هو أننا مع الحريات وحقوق الإنسان والدولة المدنية وهو ما يضعك مباشرة في مواجهة عسكرة تشتد على قدم وساق، واستبداد يتكرس دستوريا، وظلم هو أشد ظلمًا من كل ما مضى. وهو ما يضعك مباشرة في مواجهة دستور يشرعن الاستبداد، ويرجع عصر الفرعون الواحد. وهو ما يضعك مباشرة في مواجهة مستقبل يقايض عليه أحيانا، وأحيانا أخرى يباع عيانا جهارا في سوق النخاسة الدولية والإقليمية. دعك من أخطاء الإخوان وخطاياهم أين أنت من مستقبل شعب وبلد عظيمين يرهن تحت إمرة شخص واحد هو عبد الفتاح السيسي. دعك من أخطاء الإخوان وخطاياهم أين أنت من بوصلة دولة تضبط خطأ وعمدا. دعك من أخطاء الإخوان وخطاياهم أين أنت من مستقبل أجيال تتم التضحية به مع سبق الإصرار والترصد. لم يمت شباب ثورة يناير حتى يعمد السيسي رئيسا بلا انتخاب ولا رأي شعب. ولم تخرج الناس في 30 يونيه لتعزل محمد مرسي بل لتجبره على انتخابات رئاسية مبكرة ولتجبره على القيام بإصلاحات حقيقية، ولتجبره على حوار وطني حقيقي تفعل مخرجاته على أرض الواقع. ولم تنزل الناس بعد ذلك لتفوض السياسي في القتل: القتل ليس فيه تفويض، وليس فيه إجبار، فأرواح الناس سواء. لم تنزل الناس في الشوارع والميادين ليأخذ السيسي محمد مرسي رهينة، وهو لم يأخذ محمد مرسي مرشح الإخوان، بل أخذ الرئيس محمد مرسي رئيس جمهورية مصر العربية. السيسي: استأذن، وشاور، ونسّق، ورتب، وفاوض، وقايض، ورهن، وباع، مع القوى السياسية في الداخل، والقوى الإقليمية والدولية في الخارج، وما كان له ليقدم على ما أقدم عليه لولا توارد الأضواء الخضر من كل حدب وصوب. هذه حقيقة مجردة، وغير ذلك كلام لا يقوله عاقل. المعركة الكبرى الآن هي مع العسكرة والاستبداد ودستور مفصّل على مقاس شخص واحد بعينه هو عبد الفتاح السيسي، وكل ما عدا ذلك كلام في الهوامش والتفاصيل والشكليات وليس كلاما في المتن والمضمون والجواهر.