لم يكد صاحبى يشير إلى التلفزيون – كعادته – ليشد انتباهي لأنظر .. فإذا بي وقد ازداد حزنى .. كانت دهشتى بالغة مما رأيت .. فازددت عجبا .. إن التلفزيون المصري بقنواته العامة والخاصة .. وبعدما تراكمت أيامه الكئيبة السوداء .. فلا تسمع منها ولا ترى إلا التحريض على العنف والبذاءات والفضائح والتدليس .. وإثارة الفوضى .. وإضاعة الحقوق .. يقوم الآن بعرض مبهج .. وجميل .. فبعد مظاهرات مجلس الشورى ضد قانون التظاهر المسيء والمنتقص من الكرامة والحريات - ولأول مرة منذ قامت ثورة 25 من يناير2.11م .. يعرض مرغما .. ورغم انفه ، ورغم أنف - اللى جابوه ، وغصب عن اللى مشغلينه – هذه المرة .. يعرض باقة من البنات الحرائر .. وإن قلت باقة من الورد الأبيض فما أخطأت .. وإن قلت صحبة وجوقة رشيقة من البلابل المغردة تسمع نفسها فى همس .. فما كذبت.. ! بنات( 7 الصبح ) بشرتهن أنعم من الورد الأبيض .. ووجوههن أضوأ من نور القمر .. وطلعتهن كميلاد طفل على الفطرة السليمة .. برئ .. ليس به عوج .. وصفاء سرائرهن كماء الجدول الرقراق .. تتفتح ثغورهن إذا التفتن كتفتح أكمام الصباح .. يفوح من أفواههن رائحة طيب .. وألفاظ السعد .. ناهيك ما ينحدر من حجابيهن وخدورهن من للآلئ الحياء كالدر المنثور .. وما ينبعث من بين أسنانهن من ضياء ونور .. يبشرن بالطهارة والنقاء .. وتفاؤل حذر وثقة بفرج الله القريب .. ورغم الأسى من حماقة حكومة الببلاوى التى لم تفرق بين الرجال والشباب والصبية والبنات .. بنات قاصرات فى عمر الزهور .. منعاونا من تزويجهن فى سن السادسة عشر .. وسجنوهن أحدى عشر.. إلا أن رؤية الورد الأبيض فى قفص الاتهام يحرك فينا عاطفة الأبوة .. وحنان الأمهات .. ورفق الأخوات .. لولا وقوفهن فى القفص بنظراتهن اللامعة .. النافذة فى ذكاء .. وإرادتهن الصارمة .. و ثباتهن فى قفص الاتهام .. يتمايل بهن كزورق على صفة ماء صاف رقراق .. أو كغصن ورد تهفو بهن ريحه الطيبة .. يبعث فيهن روح الشجاعة الناعمة .. والقوة .. والثبات .. فتسرى روح المقاومة فى أوصال المشاهد الغيور .. وتعصف رؤيتهن فى هذا المشهد الفريد بكل القلوب القاسية .. وتطيح بكل النفوس الاستبداد الخاوية .. !
ولشيئ ما تذكرت الورد الأبيض .. وقصة البلبل الشهيد ..فرجع بى شريط الذكريات إلى أيام التلمذة الأولى .. فقد كنا نحن تلامذة المدرسة الابتدائية بالكشلة بمدينة دسوق نأكل الورد الأبيض .. ولا نأكل الورد الأحمر .. فقد كانت مدرستنا بمنزل مفتاح الكبير .. تقبع وسط حديقة غناء .. فيها من كل شيء .. وأجمل ما كان فيها كان الورد البلدي .. الأبيض .. والأحمر .. ناهيك عن الجوافة وثمار المانجو التى كنا ندركها كل أول عام دراسي .. ومع بداية فصل الخريف ، نشترى الواحدة بقرش تعريفة ( خمس مليمات ) ، ما يقابل 1 ÷ 2.. من الجنيه ، فلم تكن المانجو معروفة لنا نحن القرويين آن ذاك .. رأيتها أول مرة وأنا أسير مع أبى رحمه الله فى أحد شوارع القاهرة ..
كنا نجد لذة كبيرة فى أكل أوراق الورد الأبيض .. كانت أوراقه مكتنزة بعصارة من رحيق محبب للنفوسنا .. فكلما نظرنا إلى الوردة البيضاء وهى متفتحة .. بحجم قبضة الطفل الصغير ونعومة بشرته .. يسيل لعابنا .. وكنا ننتظر حصة الألعاب بفارغ الصبر .. فقد كان مدرس الألعاب الأستاذ إبراهيم الصيحي فيما يبدو لا يجيد درس الألعاب كالمخضرم الأستاذ حامد حراز رحمة الله على الجميع .. فكان يدخل بنا الحديقة مرة من كل أسبوع .. وفى كل مرة كان الجنايني يشكو منا بسبب طريقتنا فى قطف الزهور .. فكثيرا ما كنا نتسبب فى تكسير أغصان شجر الورد .. فقد كنا باندفاعنا الطائش من حيث لا ندرى لا نميز بين الورد الأبيض .. والورد الأحمر .. ! وذات يوم جلس معنا مدرس الألعاب ويبدو على وجهه الحزن والأسى .. ولما كنا نحبه كثيرا .. جلسنا متحلقين حوله فى صمت .. قال : أنتم عارفين أنا حزين ليه ؟ قلنا : أبدا يا أستاذ .. قال : لقد مات البلبل .. مات شهيدا .. ! قلنا له : أى بلبل يا أستاذ ؟ .. وكيف ينال البلبل الشهادة .. ؟!
وهنا قص علينا الأستاذ حكاية البلبل الشهيد .. !
لقد أحب البلبل الوردة البيضاء كما تحبونها .. ولكنه ليس مثلكم .. فأنت تأكلونها .. أما هو فقد اعتاد أن يغنى لها كل صباح ليوقظها ، فتتفتح أوراقها مع قطرات الندى .. تتقاطر على أورقها كاللؤلؤ المنثور .. كان البلبل يرى فى ذلك تحية له منها .. كأن حبيبته وهى تتفتح أوراقها .. تأذن له .. لتضمه بين ذراعيها .. فينزل من شرفة البيت بخفة .. ورقة .. ورشاقة .. يقف على غصنها برفق ليكون قريبا منها .. يشم عطرها الشذي .. ويستنشق هواءها النقي .. الزكي .. ويسمع صوتها الشجي .. يحادثها وتحادثه .. حديث الأحباب .. والعشاق .. !
وذات صباح صدح البلبل بأغنياته التى تحبها الوردة البيضاء .. ولكن - لم تتفتح عنها أوراقها .. ولم تر تلك اللآلئ الوضيئة على ثغرها .. أين ابتسامتها المشرقة الرقيقة .. أين صوت خفقات أغصانها لتبادل قلبه خفقانه .. حبا .. بحب .. ؟! واقترب منها برفق .. عله يستطلع الخبر .. إن الماء قد نضب من الحديقة .. ولم ينزل المطر.. ولم يتساءل بفظاظة وغباء لميس عن سر تأخره .. ولا حتى قطرات الندى .. لا أحد يعرف علة ندرة الماء .. فلم تكن مأساة سد النهضة قد عرفت بعد .. ولكن ما الحيلة .. حبيبته تذبل .. إنها تكاد تموت عطشا .. من أين آتى لها بالماء .. إننى بلبل ضعيف .. ولست كطفل هاجر عليه وعلى أمة السلام .. فمن أين لى بالماء .. ؟ ولم يجد بدا .. فلم يفكر طويلا .. ليس إلا ما أملك .. وليس فى وسعى إلا ما وهبنى الله تعالى من مقدرة .. وكل ينفق على قدر سعته .. ولست أملك إلا نفسي فداء لحبيبتى.. إن البشر يتبرعون بدمائهم إنقاذا لإخوانهم وأحبائهم من شبح الموت الذى يخيم عليهم بسبب حوادث القطارات .. أو جروح المظاهرات .. والمليونيات التى ابتلي بها المصريون منذ ما يسمى زورا ثورات الربيع العربي .. تطوعا .. فلست بأقل من هؤلاء الناس .. فما قيمة الحب إن لم يبذل المحب نفسه ودمه وحياته فداء لمحبوبته .. ! ولم يتردد البلبل العاشق لحظة فى التضحية بنفسه .. فليس إلا دمه يروى به عطش معشوقته البيضاء .. يبذله .. حبا .. وفداء.. وتضحية .. ونداءا للواجب .. فاقترب برفق أكثر وأكثر من وردته البيضاء .. ودخل بين أوراق غصنها كالنسمة العليلة .. لا يجب عليه إزعاجها .. كفاها ما هى فيه من سكرات العطش .. وغرس قلبه فى شوكها .. لم يتألم .. بل كان يردد ما يقوله عشاق مصر فى المثل (ضرب الحبيب كأكل الزبيب ) فقد كان يشعر بلذة عجيبة .. لذة لا يشعر بها ولا يحسها إلا من ذاقها .. إنها حلاوة الحب .. لا يعرفها إلا شهيد الحب .. واسأل هذا الصحابي الجليل .. ، لقد شم ريح الجنة ، فلم تمهله نفسه التواقة للقاء ربه جل فى علاه وهو عنه راض إلا ألقى من فهمه تمرات كان يهم بأكلها .. وقاتل بشجاعة .. واستشهد .. !
أما الوردة فقد أشرق صباح يومها من جديد .. وحزنت على حبيبها حزنا شديدا .. ولبست عليه ثياب الحداد .. بعدما كساها من دمه باللون الأحمر .. !
نعم ، حزنا نحن التلاميذ الصغار حزنا شديدا على ما حدث للوردة البيضاء .. وتعجبنا من تغير لونها إلى اللون الأحمر .. وانتبهنا ونحن - فيما بيننا - نتساءل : لماذا قص علينا الأستاذ إبراهيم تلك القصة الحزينة .. ؟ لعله كان يعلم أننا لا نأكل الورد الأحمر .. ! وانتبت من ذكرياتى البعيدة .. وحزنت لما أصاب مصرنا الغالية .. ومصيبتنا فى فظاظة حكامنا .. وغلظة قلوبهم .. إنهم ليسوا مثلنا نحن تلاميذ المدارس القديمة .. إنهم يدهسون الورد الأبيض .. ويحبسون بلابل الحديقة الغناء .. ومع ذلك .. ورغم ذلك .. فإنهم يرتعشون .. فرقا .. وخوفا .. وهلعا من باقة الورد الأبيض الحبيسة فى قفص الاتهام .. إنها باقة من نور ثورة 25 من يناير تنبعث من جديد ..وإن كانت محاطة بسياج من حديد يسمونه قفص الاتهام .. إلا أننى رأيته كثير الشبه بقفص البلابل المغردة .. ورغم جلافة .. وغلظة .. وغشم السجان .. كان قفص الاتهام يتمايل بهن فى دلال بالغ .. فقد وقفن فى وداعة بسيطة .. وإرادة حديدية ناعمة .. وتحد واع لقرار اتهام النيابة والقضاء المسيس فى نظام ( الباء ) .. لا تتعجب إنه نظام الحكم الحالي .. فقد جمع كل من شكلته (الباء )اسما ووصفا .. ! لا شك أن الكآبة ( البائية ) وكراهيتها لكل جميل وطيب .. وناجح .. وانغلاقها على حماية مصالح أنانية ضيقة .. إلا أنها لم تع الدرس السياسي جيدا .. فلن يستطيع أحد مهما كانت قوته الباطشة أن يوقف تقدم الجيل الجديد نحو أهداف مصر العليا فى الحرية والكرامة والعدالة والديموقراطية السليمة .. وأكبر دليل هو ذلك المنظر المبهج لبناتنا البريئات فى زى السجن البيض.. ووقوفهن فى قفص الاتهام .. فقد سمعت إحدى الناشطات تقول : منعونا بالقانون من تزويج بنات السادسة عشر .. ولكنهم لم يمتنعوا عن سجنهن .. !
لا شك أن ما فعلته الحكومة ( البائية ) خطأ فادح .. فبدلا من أن يشهد قفص الاتهام اللصوص .. وتجار الموت .. وصانعي الأزمات .. وجلابي المخدرات .. ومهربى الكوكايين .. وسراق المال العام .. وسماسرة السوق السوداء .. والمرابين.. ومحتكري قوت الشعب .. وغيرهم من مخرجى العري .. والمفسدين .. والبلطجية .. ومافيا الإعلام المشبوه .. وأصحاب الذمم الخربة من القائمين على التعليم العام .. والخاص .. وسماسرة الدروس الخصوصية .. وكل من تسبب فى انحطاط التعليم .. وسيادة الجهل والمرض .. وتدهور الصحة العامة .. وزيادة البطالة .. وتكاثف الفقر .. كان الأولى أن يكون هؤلاء هم من يقفون وراء القضبان بجرائمهم المعلومة للجميع .. فتلك مهمة الأنظمة الديموقراطية المحترمة .. ولكنها اختفت اليوم .. فباسم النائب العام والقضاء المصري المسيس أصبح قفص الاتهام .. سجنا للقوارير .. والحرائر من بنات مصر الثورة .. وهن غدا أمهات أبنائها وأحفادنا .. وحضنهم الدافئ .. فلسن كالوز .. حنيه من غير بز .. ! فهل يعقل ما يحدث فى مصر الآن أن تنزعج حكومة الببلاوي من البنات الصغيرات .. لا لشيئ إلا لمجرد أن لوحن بأربعة أصابع .. فتزداد منهن رعبا .. وفرقا .. وهلعا .. ؟ ! .. فكيف يمكن لمثل هذه الحكومة أن تستمر ؟ وإلى متى يتحمل فشلها المصريون؟ إن غباء الحكومة المؤقتة وإن كانت تعيد النظام المخلوع فى شكله الجديد .. إلا أنها فاقت فى تخلفها الحضاري جميع الحكومات السابقة .. وهو ما يمهد الطريق لموجة ثورية شبابية جديدة تطيح بعواجيز الأنظمة الاستبدادية المتعاقبة .. وتصحح ما وقع فيه رجال ثورة يناير من أخطاء فادحة .. والعمل على مصالحة مصرية شاملة .. فى سبيل ما ينتظر شبابها .. وجيلها الناهض من الحياة الحرة الكريمة .. وفتح الطريق أمام تحقيق أهداف ومبادئ ثورة مصر العظيمة فى 25 من يناير 2011م .. عيش .. حرية .. وكرامة إنسانية .. ذلك لتحيا مصر .. ويحيا شعبها الأبي الكريم وقد خلف وراءه – هذه المرة - وبدون رجعة .. الأنانية .. والبطالة.. والحماقة .. والغباوة ..والجهالة .. والفقر .. والمرض .. والجوع ..والعطش. ( وعلى الله قصد السبيل )
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.