كثيراً ما تُتَّهم التيارات الإسلامية بأنها لا تقدّر قيمة الوطن، وأنها لا تعطي للوطنية حقها الملائم من الاحترام والتوقير.. ويستدلّ من يروّج لهذه التهمة ببعض أقوال الإسلاميين المتعلّقة بضرورة اعتبار الهوية الإسلامية والأخوة الإيمانية، على أن هذا ينافي حب الوطن والولاء له، وقد ترتقي في بعض الأحيان لقولهم أن هذا خيانة للوطن! هذا بالإضافة إلى اجتزاء كلام قيل في سياق غير طبيعي لبعض قادة التيارات الإسلامية، كتلك الجملة التي صدّعوا بها رؤوس المصريين من كثرة تكرارها؛ حين قال المرشد الأسبق للإخوان المسلمين في لحظة غضب: "طز في مصر" مصوّرين للناس عبر تكرار هذه "الطُزّ" بمناسبة وبدون مناسبة أن هذه هي مجمل نظرة الإسلاميين للوطن! والعجيب أن هذه الكلمة - مع كونها لا تمثّل اعتقاداً أو تنظيراً لقائلها أو لجماعته- لاقت من الاهتمام والتهويل الشيء الكثير.. وأُفردت لها في الصحف مقالات يصعب حصرها؛ بل وأفردت لها مؤلَّفات متداولة تباع حتى الآن في المكتبات! المناقشة (1) النفوس السويّة جُبلت على حب الوطن والحنين إليه إذا ما غابت عنه؛ وهذا الحب الفطري للوطن صرّح به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فكان يقول عن مكة: (وَاللَّهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللَّهِ وَأَحَبُّ أَرْضِ اللَّهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَوْلاَ أَنِّى أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ). وهذا ما زاد في تألمه عليه الصلاة والسلام. (2) حب الوطن في الإسلام – كغيره من أنواع الحب الأخرى – لابد أن يوضع في إطاره الصحيح.. فإذا كان الله عز وجل قد حذرنا من أزواجنا وأولادنا - أقرب الناس إلينا - إذا طغى حبّهم على حبّ الله واليوم الآخر، كما قال تعالى: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} فمن باب أولى غيرها من المحبوبات، ومنها حب الوطن. وإننا لنجد في الحقيقة غلواً لا مثيل له من بعض من يدّعون الوطنية، وتقديمها على كل مقدّس، كما قال أحد شعرائهم: بلادك قدمها على كل ملة *** ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم (3) الأصل في المسلمين أنهم أمة واحدة، قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}، والأصل أنها دولة واحدة لها حاكم واحد يُطاع في غير معصية الله.. يعيش غير المسلمين وسطهم بأمان وأمن على حياتهم وأموالهم ودينهم ومعتقداتهم.. وعلى هذا سارت الأمة الإسلامية لأكثر من ثلاث عشرة قرنا، حيث كانوا أمة واحدة.. وجهتهم واحدة.. آمالهم واحدة، إذا تم الاعتداء على شبر واحد من أرضهم انتفض المسلمون جميعاً للدفاع عنه، ممتثلين في ذلك كله قول الله عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا}. وقد كان أكثر ما يغيظ أعداء المسلمين هذا الاتحاد، فسعوا بكل ما أوتوا من قوة لتفتيت بلاد المسلمين؛ واستشعر هذا الخطر، الخليفة العثماني السلطان عبد الحميد الثاني، فكتب في مذكراته: (بذل الانكليز جهودا كَبِيرَة فِي الدعاية للإقليمية فِي الْبِلَاد الإسلامية بغية إضعاف هيبتنا وَقد لقِيت هَذِه الدعاية قدرا من الرواج فخُدع بهَا كثير من المصريين وبدؤوا بالانتقاص من الإسلام وَمن خَليفَة الْمُسلمين) [مذكراتي السياسية للسلطان عبد الحميد الثاني ت: 1336ه] (4) بعد سقوط الدولة العثمانية.. تشتت شمل العالم الإسلامي، وانقسم إلى دول ودويلات، وتحقق حلم الغرب الذي كانوا يتمنّونه.. ومن ثَمّ وقوع كثير من بلدانهم في براثن الاستعمار الأوربي، ولم يخرجوا من هذه البلاد المستعمَرة إلا بعد أن نجحوا في غسل أمخاخ المسلمين بإثارة النعرات القومية والوطنية، التي لم تكن معروفة من قبل بهذه الصورة، وبعد اتفاقية سايكس بيكو.. أصبح الولاء والتعصّب الأعمى على هذه الحدود التي صنعها الأعداء بأنفسهم. (5) إننا وإن كنا نؤكد على أهمّية الهويّة الإسلامية؛ إلا أننا نؤكد كذلك على أنه ليس بالضرورة أن يكون هناك تعارض بين الانتماء للإسلام والانتماء للوطن؛ إذ لا مانع من أن يكون الإنسان مسلماً عربياً مصرياً مثلاً؟! لأن كلها انتماءات تندرج من الدائرة الأعلى إلى الدائرة الأدنى، لكن ولاء المؤمن الأكبر لابد أن يكون لدينه وعقيدته التي ارتضاها الله عز وجل للعباد، وأن التعصّب الأعمى لهذه الحدود الجغرافية - التي تتغيّر من وقت لآخر - يصبّ في غير مصلحة المسلمين، وينبغي كذلك أن يعتقد كل مؤمن أن كل بقعة يُقال فيها "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" هي عندنا وطن له حرمته، وأهله الذين يعيشون فيه هم أهلنا وإخواننا نفرح بفرحهم، ونحزن بحزنهم. وعلى جميع المواطنين في مصر وغيرها أن يدركوا جيّداً أن الإسلامييّن الصادقين هم أنفع الناس للوطن، لأنهم يدعون الناس ليس فقط إلى خير الدنيا، بل لخيري الدنيا والآخرة، تحت مظلّة تطبيق شريعة رب العباد التي تحمل الخير.. كل الخير للبشر جميعاً. اللّهم وحّد كلمة المسلمين.. وأعد لهم عزّهم ومجدهم