نقل العاصمة من مدينة إلي أخري ليس بالأمر السهل ، وهو رغم قلة حدوثه ، إلا أن عدداً كبيراَ من دول العالم أقبل علي تلك الخطوة ، وأنشأ عاصمة جديدة بدلاً من العاصمة القديمة لأسباب متعددة خاصة بكل دولة ، وإن كان كثير من العوامل المشتركة بين الدول جعلت من نقل العاصمة أمراً لا مفر منه ، يأتي في مقدمتها الاختناق المروري والتكدس السكاني ، والتلوث الذي يصيب معظم العواصم مع مرور الزمن ، وقد يكون ضروريا أيضا للتغلب علي بعض الظواهر الطبيعية التي قد تهدد وجود هذه المدينة إذا كانت معرضة للزلازل أو البراكين ، أو قد يكون لدواع سياسية أو أمنية .
وتعتبر اليابان من أكثر دول العالم تغييراً لعاصمتها ، ففي عام 710 م أنشأت مدينة نارا كعاصمة لليابان وذلك بعد نقل العاصمة من مدينة فوجيوارا اليها ، وعلي مدي 74 عاماً تمتعت المدينة بالازدهار كمركز سياسي واقتصادي وثقافي لليابان ، وفي عام 784 م نقلت عاصمة اليابان إلي مدينة كيوتو ، وعلي الرغم من انتقال المركز السياسي إلي كيوتو فإن بقاء المعابد الدينية في المدينة ساعد في استمرار وجود المدينة ونموها ، وعرفت المدينة باسم نانتو " العاصمة الشمالية " مقارنة بكيوتو العاصمة التي تقع جنوبي نارا ، وقد تطورت المباني حول منطقة المعابد بشكل كبير أدي إلي وضع الأسس لمدينة نارا الحالية ، وقد جرت الأعراف في التقاليد السياسية القديمة علي أنه مع نهاية المعارك بين المتنافسين ، يتوجب علي القائد العسكري المنتصر أن يتنقل إلي العاصمة ليحكم بمباركة من الامبراطور ، لكن الوضع اختلف في عام 1185 عندما قام الجنرال ميناموتو بالخروج عن هذا التقليد ، ورفض الانتقال واختار الاستقرار بسلطته في كاماكورا في الجنوب من يوكوهاما حاليا ، وعرفت البلاد أثناء فترة كاماكورا نوعا من الاستقرار ، لكن ما لبثت وأن دخلت اليابان في فترة تناحرت خلالها الفصائل المختلفة ، وفي سنة 1600 م وبعد معركة سيكيجاهارا ، تمكن الشوجون " القائد العسكري " من أن يهزم أعداءه وأسس نظاما عرف باسمه شوجونية توكوجاوا ، واتخذ لنفسه عاصمة جديدة في المكان التي كانت تقع فيه قرية أدو الصغيرة والتي كان نشاطها مقتصرا علي الصيد ، وعرفت لاحقا باسم طوكيو أو العاصمة الشرقية . وإذا كانت اليابان من أكثر دول العالم تغييرا لعواصمها ، فإن كازاخستان تعتبر أحدث دولة تقوم بتغيير عاصمتها ، فقد قامت كازاخستان بعد استقلالها عن الاتحاد السوفيتي علي نقل عاصمتها من مدينة ألماتي إلي مدينة أستانا ، لتكون أحدث عاصمة في العالم ، وقد جاء ذلك عندما تم اتخاذ قرار نقل العاصمة من مدينة ألماتي الجنوبية إلي مدينة أكملا الشمالية ليطلق عليها بعد ذلك اسم أستانا ، وما بين اليابان وكازاخستان ، تأتي دولاً عديدة أقدمت علي نفس الخطوة بتغيير عاصمتها ، ففي عام 1960 قرر جوسيلينو كوبيتشيك دي أوليفيرا نقل عاصمة البرازيل من ريو دي جانيرو إلي برازيليا ، ومنذ ذلك التاريخ لم تكرس المدينة نفسها عاصمة جديدة فحسب ، بل تمكنت من أن تجعل قلبها جزءا من التراث العالمي ، لتكون المدينة الوحيدة في العالم التي تبني في القرن العشرين وتحظي بهذا الوضع ، وكان المنتقدون يتعجبون لأمر مدينة وسط منطقة قفر ستصبح عاصمة دون أن تحمل أي معالم للتراث أو رائحة للتاريخ ، لكن برازيليا التي تبعد 1200 كم عن ريو دي جانيرو العاصمة القديمة اصبحت في 21 ابريل 1960 عاصمة من العدم في نهاية خطة استمرت خمس سنوات ، وأمست برازيليا عاصمة تتزين بمبان ضخمة ، وبمعالم رمزية تشتهر بها مثل كاتدرائية برازيليا ومبني الكونجرس ومبني المحكمة والقصر الرئاسي ، وإلي جانب البرازيلواليابان وكازاخستان قامت دولاً أخري بنقل عواصمها التاريخية العريقة إلي مدن أخري حديثة ، فتركيا التي نقلت العاصمة من اسطنبول التاريخية وعاصمة الحضارات العريقة إلي أنقرة ، ونيجيريا التي نقلت عاصمتها من لاجوس إلي ابوجا ، وباكستان نقلت عاصمتها من كراتشي إلي إسلام أباد ، وغيرهم من الدول. تبدأ قصة أستانة مع القرار التاريخي للقيادة الكازاخستانية بنقل العاصمة من ألماتي ، القريبة جدا من الحدود الجنوبية مع قيرغيستان ، إلى مدينة صناعية صغيرة مغمورة وغامضة ، حيث تقع العاصمة الجديدة في قلب كازاخستان على نهر إيشيم فى منطقة السهوب شبه القاحلة التي تغطي معظم أراضي البلاد ، وهي أكثر مدن كازاخستان برودة ، حيث تصل درجة الحرارة في الشتاء إلى 35 درجة تحت الصفر ، بينما يعد شهر يوليو أكثر شهورها سخونة وتصل درجة الحرارة إلي 35 درجة ، ومنذ أن أصبحت أستانا العاصمة الوطنية بدأت المدينة حياة جديدة ، فقد غدت مركزاً للأنشطة الحكومية والثقافية ، كما اتجهت المشروعات المعمارية لإضفاء مظهر أوروآسيوي على المدينة ؛ ففي غضون فترة وجيزة أزيلت كثير من المباني القديمة واستبدلت بتصميمات المهندس الياباني " كيشو كوروكاوا " الذى عهد إليه تصميم العاصمة ، فقدم مزيجاً مثيراً للاهتمام منح أستانا مظهراً تنافس به أكبر المدن الاقتصادية في العالم كطوكيو ونيويورك ودبي من خلال طراز معماري يجمع بين أفضل تقاليد الثقافات الأوروبية والشرقية . وقد تم الاستناد إلي اختيار العاصمة الجديدة لدراسة وطنية أخذت بعين الاعتبار 32 عاملا ، كان من بينها مؤشرات اجتماعية اقتصادية ، والمناخ ، والمناظر الطبيعية ، والشروط الزلزالية ، والبيئة الطبيعية ، والنقل ، والبنية التحتية ، ووسائل خدمة البناء والعمل ، وتمثلت المزايا الحاسمة لصالح أستانا فى مساحتها الشاسعة ، وموقعها فى الجزء المركزى ، وقربها من المراكز الرئيسية للاقتصاد الوطنى ، وشبكة الطرق ، وإمكاناتها الديموغرافية ، والبنية التحتية المتقدمة ، والنقل والبيئة الطبيعية ، وتمكنت الحكومة الكازخية وشعب كازاخستان من نقل عاصمة الجمهورية من مدينة " الماتى " ، حيث بقيت ما يقرب من 70 عاما عاصمة للجمهورية إلى مدينة " أستانا " فى 6 يوليو1998 ، وكانت تسمى فى ذلك الوقت " أكمولا " ، وهى الترجمة الدقيقة ل " آك مول " ، وتعنى باللغة الكازاخستانية " بيضاء وافرة " . تم استثمار مليارات الدولارات فى تطوير أستانا والمناطق المحيطة بها ، وهيئت المناطق التجارية والصناعية وجعلتها في حالة مواتية لضمان ظروف عمل جيدة ، ومهدت الطريق لتدفق الاستثمارات الأجنبية ، فقد تمت دراسة النظام القانوني والضرائب بطريقة تتيح للمستثمرين ان يشاركوا في عملية بناء المدينة عن طريق الإعفاء من بعض الضرائب والرسوم الجمركية ، بالإضافة إلى وضع قوانين خاصة تسهل تنظيم عمل الأيدي العاملة الأجنبية ، لجذب استثمارات بلغت قيمتها أكثر من 10 مليارات دولار ، أكثر من نصفها هي استثمارت اجنبية ، فالموقع المتميز الذى تتمتع به أستانا فى المنطقة المركزية بكازاخستان أثر بشكل ملحوظ فى السنوات الأخيرة على عدد سكانها ، واقتصادها الذى ارتفع بسرعة كبيرة ، وبعد نقل كافة المؤسسات الحكومية والشركات انتقل رأس المال من مدينة ألماتى إلى العاصمة الجديدة أستانا ، وارتفع عدد سكان المدينة من 270 ألفا فى 2001 إلى 750 ألفا فى عام 2010 " حوالى 5٪ من سكان كازاخستان " ، ومن المتوقع أن يصل إلى 880 ألف بحلول عام 2016 ، كما ارتفع الناتج الإجمالى الإقليمى للمدينة منذ عام 1998 من 2٪ إلى 9٪ فى الوقت الحالى . وتشير الدراسات التى قامت بها وكالة موديز للتصنيف الدولى للمستثمرين بأن أستانا اليوم أصبحت مصدراً للعملات الأجنبية والمحلية على الصعيد العالمى ، حيث تتمتع بتوازن فى الميزانية وانخفاض معدلات العجز المالى ، وقدرة عالية على تحقيق المزيد من النمو ، وتعتبر هذه الخطوة مهمة من قبل دولة حديثة الاستقلال فرضتها أسباب سياسية واقتصادية وبيئية وديموغرافية موضوعية ، فضلا عن الجانب الاستراتيجى المهم ، فموقع العاصمة الجديد الآن فى مفترق الطرق بين أوروبا ودول القارة الآسيوية . لم تعد أستانا مركزاً ادراياً وحسب ، بل تحولت المدينة الى مركز تجاري رئيسي في المنطقة ، فعلي سبيل المثال يوجد " خان شاتر " أو الخيمة الملكية هي أحد أكبر مراكز التسوق والترفيه الحديثة في استانا وقد صمم على شكل خيمة عملاقة علي مساحة 150 ألف كيلو متر مربع ، ويبلغ ارتفاع الخيمة 150 مترا تم إنشائها بطريقة بديعة تسمح الهواء بالتدفق من جميع الاتجاهات ، ودخول ضوء الشمس خلال النهار ، وتعتبر أكبر خيمة في العالم ، وعلق سقف مصنوع من البوليمر الشفاف على شبكة من الكابلات ترتبط جميعها بأعلى الخيمة التي تضم العديد من المؤسسات التجارية ومراكز الترفيه وحمامات السباحة ، وفي هذا المركز الترفيهي يتم استخدام ضوء الشمس الطبيعي مع أنظمة التدفئة والتبريد وذلك للمحافظة على درجات حرارة ملائمة حيث أن فوراق درجات الحرارة خارج المركز تختلف بين 35 درجة مئوية تحت الصفر في الشتاء وفي الصيف أكثر من 35درجة ، كما تضم استانا جامعة نور سلطان الأكاديمية التي أصبحت مقصداً للشباب الكازخستاني للحصول على الشهادات الجامعية ، والتي تعتبر تحفة معمارية وهندسية لا مثيل لها ، فقد تم تصميمها علي شكل هرم زجاجي مرتفع في السماء . المسافرين الأجانب بعد وصولهم إلي مطار أستانا الدولي يمكن أن يصلوا إلي وسط المدينة عبر الحافلة رقم " 10 " التي تصل بين العاصمة بالمطار مرتين كل ساعة ، حيث يمكن مشاهدة وسط الميدان برج " باي ترك " الذي يرتفع لنحو 105 متر ، وتعلوه كرة ذهبية قطرها 22 متر مزودة بمنصة توفر إطلالة رائعة على المدينة ، ويرمز التصميم لشجرة الحياة المقدسة تعلوها بيضة وضعها طائرة السعادة الساحر ، وقد افتتح البرج عام 1997 كتعبير عن انتقال العاصمة ، ويضم البرج معرض للفنون الدائمة وحوض للأسماك يجذب أنظار كل زوار البرج . " نور أستانا " هو أحدث وأجمل مساجد المدينة ، ويقع في الطريق الرئيسي المؤدى من وإلى المطار ، والمسجد تحفة فنية اشترك فيها مهندسون كازاخ وأتراك ، ويطغى اللون الفيروزي على سقفه وجدرانه في تناسق وتناغم مع السجاد الأحمر رمز المودة في ثقافة الكازاخ ، والأبيض رمز الرسالة السماوية ، والأخضر رمز الشباب والربيع ، وبالقرب من المسجد أقيمت مدرسة لحفظ القرآن وتنظيم المسابقات القرآنية ، أما " هرم السلام " أو قصر السلام والمصالحة يعبر عن روح كازاخستان والتعايش بين الأديان والثقافات المختلفة ، وقد صمم المبنى كدعوة لنبذ العنف وتعزيز الإيمان والمساواة بين البشر ، ويضم أماكن لمختلف الديانات العالمية ، ودار أوبرا تستوعب 1500 شخص ، ومكتبة ومركز لأبحاث الجماعات العرقية في كازاخستان ، ومتحف ثقافي . مبنى قاعة الحفلات المركزية ، الذي يتخذ شكل زهرة ذات ثلاث بتلات زجاجية مستوحاة من ديناميكية وحركة الموسيقى ، ويرتفع المبنى لثلاثين متراً بمساحة ثلاثة آلاف متر مربع تقريبا ، ويضم عدة قاعات بمساحات مختلفة أكبرها القاعة الرئيسية التي تستوعب 3500 شخص ، وتستضيف مزيجاً فريداً من حفلات الموسيقى الكلاسيكية وموسيقى البوب ، كما يحتضن المبنى عروض المسرح والباليه والمؤتمرات والمهرجانات السينمائية ، أما القصر الرئاسي الجديد ، والذي بُني عام 2004 بارتفاع خمسة طوابق ، فيضم قاعة لمؤتمرات القمة والزيارات الرسمية من قبل ممثلي البلدان الأجنبية ، وقاعة ذهبية للمفاوضات ، كما يعتبر شارع الجمهورية بمثابة المحور الرئيسي للنشاط علي مدار اليوم ، فهو شارع حيوي يضم العديد من المتاجر والمقاهي والمطاعم والنوادي الليلية ومتاجر الهدايا التذكارية والآلات الموسيقية التقليدية ، والمكتبات ، ومحلات المجوهرات والحيوانات المحنطة ، كما يضم المركز الإسلامي والمسجد المركزي وكاتدرائية الروم الكاثوليك ، اما مجمع دومان فيضم مسرح ثلاثي الأبعاد ومحلات تجارية وفندق ، وحديقة أكواريوم ، وتضم ألفين من الكائنات البحرية تمثل مائة نوع . بهذا العرض المبسط لقصة العاصمة الجديدة لكازاخستان " أستانا " ، نري أن هناك عدد من العوامل كانت وراء تلك الخطوة الهامة من مختلف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية وغيرها ، فقد كانت الإرادة الوطنية الشجاعة ، والاختيار الأمثل لموقع العاصمة الجديدة ، والتخطيط الجيد للشوارع والميادين ، والتوزيع القائم علي دراسات علمية لمواقع المؤسسات الإدارية والاقتصادية والتجارية والترفيهية ، كل هذه العوامل وغيرها هي الأسس التي يجب أن تقوم عليها عملية اختيار عاصمة جديدة لمصر ، بعدما أصبحت القاهرة تعاني من أمراض مزمنة يصعب علاجها ، ياتي في مقدمتها التلوث والتكدس السكاني الرهيب ، ومشكلة المرور وووسائل المواصلات ، والعشوائيات ، والترهل الكبير الذي أصاب جسد تلك المدينة التاريخية العريقة . لقد بات من الضروري لمصر اتخاذ عاصمة جديدة لها ، حتي تعيد للقاهرة شبابها ونضارتها وبريقها كمدينة تاريخية ، والذي فقدته طوال السنين الماضية ، وذلك عندما ترحل مؤسسات الدولة الإدارية إلي العاصمة الجديدة ، كما ان العاصمة الجديدة للبلاد من شانها أن تعمل علي إعادة رسم خريطة مصر السكانية والعمرانية من جديد ، وفتح أفق جديدة للتنمية ، من خلال إعادة توزيع السكان علي مناطق جغرافية وعمرانية غير مأهولة تكون العاصمة الجديدة مركزا لها ، فهل تتوافر الإرادة القوية لإتخاذ تلك الخطوة الهامة لمصر ؟ .
كاتب وباحث في الشئون الآسيوية عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.