لأسباب مهنية تابعت ردود أفعال الصحف المصرية الصادرة في اليوم التالي لمحاكمة الرئيس المعزول محمد مرسي ، ومقالات الكتاب أو بعضها ، وكذلك بعض ردود الأفعال على صفحات التواصل الاجتماعي ، ووصلت إلى قناعة بأن مصر لا تعيش خلافا سياسيا ولو حادا ، مصر تعيش أحقادا سياسية حقيقية ، وتلك كارثة ينبغي التفكير في التعامل معها بطريقة مختلفة عن الحوار السياسي العادي أو حتى الصراع السياسي بأدواته التقليدية ، مستوى الكراهية بالغ العنف ، ودرجات الشماتة مترعة بالمرارة ، يصعب أن تجد صوتا للعقل أو رؤية هادئة للحدث وخلفياته وأبعاده وتوابعه ، والمشكلة أن معظم هذه الآراء صادقة جدا مع نفسها ، وتعبر بالفعل عما تشعر به ، باستثناء كتابات البعض في الصحف القومية أو صحف المقاولات لبعض رجال الأعمال ، والذين يعزفون اللحن الذي يطلبه من يدفع للزمار على رأي المثل الانجليزي ، أو ألئك الذين تنتابهم الكوابيس مع اقتراب موعد تغيير رؤساء مجالس إدارات ورؤساء تحرير الصحف ، فيبالغ بعضهم في "شتيمة" خصوم السلطة الحالية على أمل أن يعطفوا عليه بنظره فيبقون عليه إن كان في الكرسي الصغير ، أو "يحطوه" عليه إن كان بعيدا عنه حتى الآن ، بخلاف هؤلاء ، فإن الآراء السياسية التي كتبت ونشرت هي تعبير عن مشاعر غضب حقيقية لا يمكن اتهامها بأي دوافع غير شريفة ولا نزيهة ، تختلف معها نعم ، تخطئها يجوز ، لكن لا يمكن اتهام أصحابها بالارتزاق أو النفاق السياسي ، وأغلبهم من أبناء ثورة يناير وشركاء النصر فيها ، قبل أن تختلف الطرق . لفت انتباهي أن البدلة البيضاء التي ترمز للحبس الاحتياطي أخذت حيزا كبيرا في عناوين الصحف المصرية ، الحكومية والخاصة ، بعضهم لم يسعده الحظ برؤية مرسي بالبدلة البيضاء في القفص فراح يضع عناوين تفيد أنه على كل حال لبسها عندما ذهب إلى سجن برج العرب ، قبل أن تنشر مواقع تلك الصحف بعد ذلك ما هو منسوب إلى "مصدر أمني" أن مرسي لم يذهب إلى برج العرب أصلا ، وآخرون قالوا أنه وضع في المستشفى ، وقد أضحكني كثيرا مسؤول أمني رفيع في وزارة الداخلية حاول أن يفسر سبب وضع مرسي في مستشفى السجن ، فقال أن هذا إجراء معتاد مع أي مسجون يتم نقله حديثا إلى السجن للاطمئنان على سلامته من أي مرض وإخضاعه للعلاج إن احتاج قبل دخوله إلى الزنازين ، والرجل ربما كان مستغرقا في قراءة أدبيات السجون في فنلندا أو الدينمارك ، لأن كل من مر على سجون مصر في السنوات الماضية يعرف كيف يكون حفل الاستقبال وكيف تكون الرعاية الأمنية الكريمة . كثير من الآراء تعلقت بإبداء الشماتة في مرسي وقيادات الجماعة وهم في قفص المحكمة ، وقد لاحظت أنها شماتة أكثر حرقة من تلك التي بدت تجاه الرئيس المخلوع حسني مبارك عندما ظهر للمرة الأولى في القفص ، وبدون شك فإن لتلك المشاعر أسبابا ، بعضها موضوعي وحقيقي وصحيح ، ولا شك أن هناك أخطاء حدثت في عدم القدرة على فهم طبيعة اللحظة التاريخية وبالتالي كيفية استيعاب قوى الثورة وشركاء الوطن والتعامل معهم بإهانة واستخفاف وإقصاء وإرسال رسائل سلبية للآخرين بأن كل شيء انتهى ، وأن الجماعة تولت السلطة ولن تتركها قبل خمسين سنة على الأقل ، المرارات لا تصنع من فراغ ، ينبغي أن نعترف بذلك ، وبعض هذه المرارات من رموز وسياسيين ومثقفين وصحفيين ونشطاء ، أيدوا مرسي في المواجهة الحاسمة مع شفيق ، رمز الفلول ، وقالوا ننصره وندعمه ونقبل به باعتبار ذلك نصرا للثورة والدولة المدنية والشراكة السياسية ، قبل أن يتغير موقفهم جذريا بعد ذلك ويحدث ما حدث . بعض هذه المرارات مفهوم ، ولعله من الصحي والمفيد أن يتم خروجه والتنفيس عنه ولو بالكلمات القاسية ، فالنفوس لا تهدأ ويبدأ مشوار العقل إلا بعد تنفيس براكين الغضب المكبوتة ، لكن في النهاية لا يمكن أن يبنى مستقبل لمصر على مثل هذه المرارات ، فلا يوجد الطرف الذي يمكنه أن يحل المشكلة بأن يلقي بعشرة ملايين مصري مثلا من المختلفين سياسيا معه في البحر أو في الصحراء ، لا بأس أن ننفس عن مراراتنا ونصرف غضبنا ولو بتلك القسوة ، لكن الأهم ، أن نبدأ بعد ذلك وفي أسرع وقت التعامل مع أزمة الوطن ومستقبله بروح أخرى مختلفة ، روح البحث العاقل والعملي عن معالجة الأخطاء الماضية ، والتأسيس لشراكة سياسية حقيقية ، بضمانات كافية ، دستورية ومؤسسية ، تنهي الانقسام الوطني ، وتطلق طاقات البناء للدولة المصرية الحديثة .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. twitter: @GamalSultan1