في فوائد جمة من سورة يوسف علمتنا السورة :"أهمية التخطيط للمستقبل", كما أوضحت" صفتين لازمتين للقائد" , ثم نبهتنا الى " عثرات الطريق", واليوم نتحدث عن هذا المعني : " إن الله لا يهدي كيد الخائنين" إنه من أهم المعاني التي يجب أن تستقر في نفوس الدعاة وأهل الحق, ليحدوهم الأمل واليقين في نصرة الحق وأهله مهما طال الزمن, لقد نزلت سورة يوسف على رسو ل الله صلى الله عليه وسلم في العهد المكي لتسري عنه في ظل ظروف بالغة الصعوبة ( في الفترة ما بين عام الحزن الى بيعة العقبة) , والدعوة تعاني من حالة جدب تام داخل مكة, والرسول صلى الله عليه وسلم يبحث عن مخارج للأزمة, فبدأ يعرض نفسه على القبائل لعله يجد نصرة منهم وأمانا لديهم, وكأن الله أراد أن يقول لنبيه (بسرد قصة يوسف عليه): إن لك أخاً كريما على درب الإسلام والدعوة إليه , هو الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم, بدأت قصته باصطفاء من الله له, وكذلك أنت يا محمد فإن الله أصطفاك واختارك لرسالته الخاتمة, وإذا كان إخوة يوسف قد حقدوا عليه وحسدوه ,فقد حقد سادة قريش عليك كما أخبر الله تعالى: [وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ]- (31) الزخرف. وإذ عاني يوسف عليه السلام من سلسلة من الابتلاءات المتنوعة, مثل ما تعاني, وكابد مثل ما تكابد وصبر مثل ما تصبر, وخرج من وطنه مثل ما ستخرج, لكنه انتصر في النهاية وانت ستنتصر في النهاية, وسيعفو في النهاية عمن أساء إليه كما ستعفو في النهاية عمن أساء إليك. لذلك نلمح قدرا كبيرا من التشابه بين احداث القصة وسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم, ولعلها هي "قصة الدعوة والداعية" في كل زمان ومكان, ومن سنن الله تعالى في التمكين والاستخلاف في الأرض، ولقد سُئل الإمام الشافعي : "أيُمَكَّن للمرء أولاً أم يُبتلى؟" فقال: "لا يُمكَّن للمرء حتى يُبتلى". ادعاءات الباطل لقد عرضت لنا السورة كيدا ومكرا من إخوة يوسف ليوسف, وظنوا أنهم قد حسموا الأمر وتخلصوا منه, ولم يدركوا أن ما جرى يمثل مشهدا واحدا يعقبه مشاهد, ولقطة واحدة تتبعها لقطات في قصة متعددة الفصول. لقد عرض إخوة يوسف قضيتهم الباطلة : [ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8)] ثم أصدروا الحكم بناء على الإدعاء الباطل فقالوا : [ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)] وامرأة العزيز تعرض القضية الباطلة والإدعاء المزعوم الزائف الكاذب : [قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا ] – ثم أصدرت الحكم ايضا فقالت : [ إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)]. رأينا مثله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, حينما عقد سادة قريش اجتماعا في دارة الندوة , فعرضوا القضية الباطلة وأصدروا الحكم الظالم بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكأن الله أراد أن يخبر النبي صلوات الله وسلامه عليه, أنه ستقع محاولة لقتله ( يوم الهجرة) كما جرت محاولة قتل يوسف عليه السلام. وفي إطلالة من الماضي الى واقعنا المعاصر, نكاد أن نرى اليوم إعلاما يحرض على أهل الحق بمسلسل وفيلم ومقال وبطانة وحوار بل وبحروب واستعمار, وبنفس الطريقة , عرض القضية ثم اصدار الحكم وكلاهما باطل ( القضية والحكم ). كما نراه في ادعاءات الصهاينة والأمريكان عن ارهاب مزعوم واسلحة دمار, فتُشن الحروب ويُقتل الأبرياء, ونراه في مكر وتحريض وكيد أنظمة ظالمة بإعلامها واجهزتها صوب الحق وأهله متمثلة أيضا في ادعاءات كاذبة ثم احكام ظالمة. صبر أهل الحق في مقابل تحريض أهل الباطل ومكرهم وادعاءاتهم الكاذبة واحكامهم الظالمة, فإن السورة علمتنا أنه لا ينبغي لأهل الحق أن لا يترسخ في نفوسهم غير الأمل واليقين في الله ونصره, فما فقد يعقوب عليه السلام الأمل أبدا في عودة يوسف, فعند سماعه ادعاء إخوة يوسف بأن الذئب قتله فقال: [ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ (18) ] , وكررها حين علم بفقدان ابنه الثاني " بنيامين" : [قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا ۖ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)] ثم يقول بعد ذلك في يقين بالغ بعد مرور سنوات طويلة على غياب يوسف : [ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) ] لنرى أن السورة تعالج أي آثار يأس قد تتسرب في نفوس الدعاة من طول الطريق وعقباته, ولذلك رأينا في آيات التعقيب العشر, في الحديث الموجه لمحمد صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده, هذه المعالجة لأي آثار من يأس أو قنوط , فتبث الأمل وتزرع اليقين : [حَتَّىٰ إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ ۖ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) ] خيبة سعي الماكرين مما يدعم بث روح الأمل ومحاربة اليأس الذي قد يتسلل في وقت شدة الأزمات الى نفوس الدعاة , أظهرت لنا السورة خيبة سعي الماكرين, فما استطاع إخوة يوسف تحويل حب ابيهم عن يوسف برغم غيابه الطويل, ولم تستطع امرأة العزيز إغواء يوسف بالرغم من السجن والتنكيل, ولم تصرفه عن الحق الذي يعتقده ويؤمن به, ولعل هذا الدرس البليغ يردع أهل الباطل, فقد ينجحون في تغييب الحق وأهله حينا , او تشويهه حينا أخرا, او النصر عليه في جولة حينا ثالثا, لكنهم لن يستطيعون البتة اقتلاع حق من جذوره ابدا, فكما قال الله تعالى في سورة فاطر:[ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ(43)] إقرار المُخطئين في مشهدين من مشاهد السورة, وبعد مرور سنوات طوال, وظهور الحق وخذلان الباطل, رأينا امرأة العزيز في صراحة نادرة ولعلها لحظة التوبة:[ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)] وكان هذا الاقرار بالخطأ والعودة الى الصواب من اهم المشاهد في القصة, وهي تؤكد على معاني عظيمة تبث الأمل في نفس أصحاب الحق لتؤكد على أن الله لا يهدي كيد الخائنين. وفي المشهد الثاني عند مواجهة يوسف لإخوته بما فعلوه معه مصداقا لبشارة مبكرة من الله له ( في شدة الأزمة , في شدة المحنة , في قلب الجب , حيث لا أنيس ولا نصير ), إذ قال سبحانه : وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وجاء وقت تحقيق البشارة وموعود الله سبحانه, حين قال يوسف عليه السلام لإخوته: [قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ۖ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي ۖ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ۖ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)] وكان معه ايضا إقرار المخطئين بخطئهم في لحظة الندم والتوبة. شكر ورجاء وأمل دائم لقد جاءت السورة في احدى عشر ومائة آية, منها مائة آية للقصة بتمامها ( من رؤية يوسف حتى تحقيقها ), ثم آية الشكر والدعاء, وهي درس بليغ للدعاة الى الله في كل مكان وزمان, ليتوجهون الى ربهم حين تحقيق الغايات بالشكر والدعاء . وأكاد أن أشعر بدموع يوسف تنساب على وجنتيه, وأحسب أن هذه المشاعر الفياضة تتدفق في نفوس الدعاة وهم يستمعون أو يرتلون هذه الآية :[ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)]. ثم تُختتم السورة بعشر آيات للتعقيب على القصة في حديث الى رسول الله صلى الله عليه وسلم والى الأمة من بعده , لتؤكد على هذه المعنى , انه مهما طال الطريق , وتعددت ابتلاءته, فإن الحق سينتصر في النهاية , فربما ينتصر الباطل في جولة من جولات المعركة, وربما يعلو فوق الحق تارة, لكنه حتما علوا مؤقتا سرعان ما يزول , وستنتهي المعركة في خاتمة جولاتها بنصرة الحق وأهله. إلى وفاء قسطنطين وكاميليا زاخر وأخيرا : كلمة في هذا الصدد الى الأختين وفاء قسطنطين وكاميليا زاخر, الى كل واحدة منهما بمفردها, دون أن أدرى إن كانت لهما القدرة على متابعتها ام لا , دون أن أدري إن كانت الواحدة منهما حية أم شهيدة, أناديك : أختاه أختاه..بقلب مكلوم مفجوع, وبقهر يملأ جنبات نفسي لعجزي عن نصرتك, لا تتعلقِ إختاه برقابنا يوم القيامة وأنت تقولين: خذلتموني ولم تنصرون, لعل لنا يا أختاه فسحة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: [من رأي منكم منكرا فليغيره], فيقبل منا إنكارنا بالقلب واللسان لما جري لك, وصدقيني أختاه إن الواقع الكئيب الظالم الخانع الذي نعيش في لهيبه لن يدوم, وحتما سيتبدل, وأكاد أن أشعر اللحظة بنداء الله ليوسف عليه السلام وحيا وهو في قلب الجُب : وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا ولا يشعرون, وأكاد أن أردد مع إمرأة العزيز لحظة صدقها وندمها وتوبتها : إن الله لا يهدي كيد الخائنين , نعم يا أختاه, لن يهدي الله كيد خائن أبدا ..