فى " فلسفة الثورة " يحدد عبد الناصر الدوائر الثلاث التي تنتمي إليها مصر ومنها تنطلق للتأثير الخارجي، وهى الدائرة العربية وثانياً الأفريقية ثم الدائرة الإسلامية، ويؤكد أن المسلمين بإمكانياتهم من الممكن أن يصنعوا المعجزات "، بل أن عبد الناصر سبقَ فى رفعه لشعار " الإسلام هو الحل "؛ فقال " الحل الصحيح فى بلادنا العربية والإسلامية منذ نزل القرآن على محمد بن عبد الله يدعو إلى الأخوة الإنسانية ويفصل مبادئ العدالة الاجتماعية على أساس من التراحم والتكافل الأخوي والإيثار على النفس فى سبيل النفع العام للجماعة بغير طغيان على حرية الفرد ولا إذلال له ولا إنكار لذاتيته "، ويدعو عبد الناصر الفلاسفة والمفكرين إلى الكف عن البحث، فى أحد مقالاته التي نشرتها سلسة اخترنا لك عام 54م، والسبب كما يقول: " عندنا الحل، الحل هو الذي نزل به الوحي على نبينا منذ ألف وثلاثمائة سنة، هو الحل الأخير لمشكلة الإنسانية ". كيف خسرَ الإخوان إذا رجلاً كهذا، يجمعُ بين حب الدين والوطن والرغبة فى خدمتهما ولديه ما أخبر عنه مؤرخ الإخوان محمود عبد الحليم فى كتابه ( أحداث صنعت التاريخ ) : " لمحة عبقرية وله طموح يفوق كلَ تصور " ، ويصفه فى موضع آخر بصاحب " الذاكرة الفولاذية والقدرات التكتيكية والطاقات الهائلة ، واستحوذ على الضباط الأحرار واستطاع السيطرة عليهم وعلى مقاليد البلاد " . ليس هذا فحسب، بل كيف تخسر الجماعة زعيماً بهذه الضخامة كان وفياً للشيخ البنا ومنهجه ؟ ، يقول الشيخ الباقورى: " حين وليتُ الوزارة فى 1952م زرتُ المرحوم جمال عبد الناصر، وكانت زيارتي إياه فى حجرة صغيرة على يسار الداخل إلى بيته، ودعاني إلى الجلوس على كنبة صغيرة لا تحتمل أكثر من شخصين أو ثلاثة، ثم قال لي: هنا كان يجلس الإمام الشهيد حسن البنا، فقلتُ: أرجو أن يكون مجلسي هذا مُذكراً لك بما عسى أن تكون ضقتَ به يوماً من الإخوان المسلمين، فقال الرجل: لا، وسترى يوماً أنني لم أكن عدواً لهم " . ولم يكن عبد العزيز كامل والغزالى وسيد سابق ، ثم عبد المنعم أبو الفتوح ومحمد حبيب ومختار نوح .. الخ أعداءاً للإخوان ، إنما العداء لكل صوت اصلاحى وفكر متطور ووجهة نظر مخالفة للقيادة . عبد الناصر كان مستهدفاً ابتداءاً لأنه خرج من الإخوان، ولأنه كان مسئولاً عن تشكيلات الإخوان بالجيش ومعه أسرار التنظيم، وعضو بهذا المستوى إذا خرج يُخلى سبيله – بالمعنى الحركي يتم التخلص منه كما يوضح الصباغ فى ( التنظيم الخاص ) معنى إخلاء السبيل لمن خان العهد أو أفشى السر -. وفى الوقت الذي كانت جميع خطط استهدافه معلومة لديه كما يقول أحمد رائف فى " صفحات من تاريخ الإخوان ": " كان كل شئ عن الإخوان مكشوفاً أمام الحكومة والمباحث العامة " ، إلا أن عبد الناصر – كما يؤكد رائف أيضاً " كان حريصاً على استخدام الإخوان وعدم الانفصال عنهم فهو على يقين أنهم القوة الشعبية الكبيرة " . وسبب آخر أنه حل الجماعة ، وقد قتلَ الإخوان النقراشى باشا لنفس السبب عندما حلها للمرة الأولى ، وقد هتفوا صراحة فى مظاهرة عابدين الشهيرة " دم الشهداء بدم جمال " . لذلك استفحلت دولة المخابرات وأصبحت أجهزة التنصت فى كل مكان ، وصار هاجس الحفاظ على حياة عبد الناصر بحجم استماتة جميع رجال هذا العهد فى حماية الثورة من السقوط . الوزير الباقورى من ضمن من وُضعَ فى بيته جهاز تنصت، ولم يقترب عبد الناصر منه وهو يعلم نشاطه فى خدمة خصومه السياسيين ومعاونة أسر معتقليهم والإنفاق عليهم من مال الأوقاف، لكن أوقعه تسجيل لحديث دارَ فى بيته نالَ من عبد الناصر وطعن فى أمه ولم يرد الباقورى غيبته – ويبدو أنه كان يصلى - . عبد الناصر يُسمعه ما سجله فى بيته فى مشهد عجيب ، لكن الأعجب هو المغزى فقد كانت دموع عبد الناصر وحرصه على ألا تمس المخابرات الباقورى بسوء كفيلة بفهم المسار الذي حرص َ عليه مُصلح مطارد ، متحالفاً مع مُصلح مطرود . مطاردة قديمة حديثة فيها من المآسي الفردية وعلى المستوى الإنساني ما فيها، لكن الأهم مضارها الكارثية على المشروع الوطني؛ فجهود المصلحين للتوافق والمصالحة ممنوعة داخل الجماعة ، ثم مُلاحقة خارجها .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.