أثبتتْ التجربة القديمة والحديثة أنه لن ينجحَ الناصريون اذا أقصوا الاسلاميين ، وتجربة عبد الناصر شاهدة ، حيث كانت اخفاقاتها بسبب فشل التحالف مع الاخوان ، ولن ينجحَ الاسلاميون باقصاء الناصريين ، وتجربة مرسى شاهدة ، ولن يكون الحظ حليفَ الناصريين الذين يتصدرون المشهد اليوم اذا لم يستغرقوا الجهد فى اجراء مصالحة تاريخية تنهى هذا النزاع التاريخى وتعيد الاسلاميين للمشهد . دعونا من هذا الحكم العام الذى توصلتُ اليه بعد تأمل طويل فى التاريخ القديم والمعاصر ، ولنعاينَ هذا النموذج المُصغر الذى يمثل عبد الناصر أحد طرفيه ، والذى استغرق جهده ليقبلَ الاخوان بالجانب الشعبى المُهتم بالناحية الدينية والأخلاقية والتربوية فى الثورة ، بل عرض نفسَه للاهانة مِراراً أمام استعلاء المُرشد فى اجتماعات التشاور ، فكان يتصبر ويدوس على كبريائه ويُهدئ صلاح سالم من روعه ، وما وصلَ الى خيار المعتقلات والقسوة المفرطة الا بعدَ أن اتضحَ له أن الاخوان بين خيارين اما رأس الضباط أو اعادتهم الى الثكنات صاغرين . وبعد زوال الفرص ضمن نوبة ندم مكتومة لا تقدم ولا تؤخر يعترف مؤرخ الاخوان محمود عبد الحليم بأن " شخصية عبد الناصر كانت تستحق منا دراسة وعناية فى التعامل معها أكثر مما كنا نوليها " ! هذا ليس دفاعاً عن عبد الناصر انما استقراء واجب للتاريخ الحقيقى المسكوت عنه ؛ فالرجل سعى للتعاون بكل السبل وصبرَ كثيراً ، حتى فى مرحلة التأديب بالسجون من أجل اعادتهم بالقسوة لجادة الصواب – كما ذهب الى ذلك الدكتور هشام الحمامى فى مقال له بصحيفة المصريون ، فى اشارة عميقة أتفق فيها معه لأسباب سيأتى ذكرها ان شاء الله– بعد أن اتضحَ له أنهم لا يُجهزون له ولرفاقه سوى النعوش ، تركَ البابَ مفتوحاً للعودة للراغبين فى التعاون بعد التأمل داخل السجن ، وخرجَ الكثيرون من المعتقلات مقتنعين بفكرة العمل فى اطار الدولة ، تأكيداً لما ذهبَ اليه أحمد رائف بقوله : " كان المرشدُ العام للاخوان حسن الهضيبى فى واد وكل الاخوان المسلمين فى واد آخر بالنسبة لنظرتهم الى جمال عبد الناصر والثورة " . هذا يدل على أن قطاعاً كبيراً من الاخوان كان مع فكرة التكامل مع عبد الناصر والثورة ، وحجزتهم ارادة القيادة المتمثلة فى الهضيبى ، الذى اختارَ النزاعَ الى النهاية ، فضلاً عن مغزى التوقيعات التى جمعها البهى الخولى لخلع المرشد ، حيث ذهب البعض أنها شملت أعضاء الهيئة التأسيسية جميعاً . فشلَ عبد الناصر فى احراز التحالف مع قيادة الاخوان التى اختارت المناورة بعدَ أن رفضت حل تشكيلات الاخوان فى الجيش وحل الجهاز السرى ، حيث رأى عبد الناصر ألا مُبررَ لوجودهما بعد قيام الثورة ، لكنه من جهة أخرى أرادَ للتجربة أن ترى النورَ بشكل أو بآخر ؛ فكان تعاونه وتحالفه مع بعض رموز الاخوان ، الذى أثمرَ نجاحات محدودة بلا شك ، لكنها دالة للدارس على تصور مدى حجم الانجازات الضخمة على المستوى المحلى والاقليمى والدولى فيما لو كان التحالف شاملاً جامعاً كلياً ، ليخدمَ المصريون قضاياهم المشتركة التى تصب فى النهاية فى مصلحة الاسلام والوطن ، واقفين جميعاً على قلب رجل واحد فى وجه التحديات . يهمنا جداً هنا الطرف الآخر من المعادلة وهو الشيخ الفاضل أحمد حسن الباقورى ، فهو يمثل الجانب الأكثر حساسية والأبعد عن قبول فكرة الصلح ، فكيف فلسف منهجه وأعطاه المشروعية ، وكيف رأى أن هناك أرضية مشتركة يمكن الوقوف عليها مع عبد الناصر ورجال الثورة ، وأن قضايا كبيرة كالعدالة الاجتماعية والمساواة والاستقلال ورفض الهيمنة الأجنبية والاستعلاء الصهيونى ، والسعى لوحدة وتعاون العرب ، من الممكن أن تستوعب التيارين فى فريق متجانس بلا اقصاء ولا تخوين ولا مزايدة على اسلام أو وطنية . هذا بناء وضعَ حجرَ أساسه عبد الناصر والباقورى فى الخمسينات ، ولم ينلْ من الاهتمام سوى زيارات خجولة ودعوات غير مؤثرة - لكونها انطلقت من خارج البلد الأم - ، كدعوات وجهود خير الدين حسيب فى لبنان وراشد الغنوشى فى تونس وما تم من تأسيس للمؤتمر القومى الاسلامى . لكن ظل حجر الأساس الذى وضعه عبد الناصر والباقورى بلا بناء حقيقى ، وربما اندثرتْ معالمه وعصفتْ به الأحداث التى قادها رموز المفاصلة والشيطنة ، الذين رفضوا حاكماً صوروه خائناً لعهدهم حتى لو حكمهم بالشريعة .
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.